مصوِّرُ الطبيعةِ “محمد الشعيبي”؛ جمالُ الأشياءِ في مكانِها الطبيعي

تقرير : السعادة
حينَ يفارقُ الخطُّ الأبيضُ الخطَّ الأَسودَ؛ ومعَ انبثاقِ أولِ لمحةِ ضوءٍ لصباحٍ جديدٍ يطلُّ على فلسطينَ؛ يكونُ ضيفُ “السعادة” مستعدًّا لالتقاطِ صورتِه _التي حضَّرَ لها طويلاً وعميقًا_ في حالةٍ من الشغفِ والحبِّ الذي لا يتوقّفُ إلَّا للبحثِ عن هدفٍ جديدٍ لعدسةِ كاميرتِه.
على مدارِ سنواتٍ طويلةٍ؛ يستيقظُ “محمد الشعيبي” يوميًّا قبلَ شروقِ الشمسِ؛ وأحيانًا في ساعاتِ الليلِ الأخيرةِ؛ ليذهبَ إلى مكانٍ بَريٍّ يُحدِّدُه سابقًا؛ ليلتقطَ صورةً لطائرٍ أو حيوانٍ؛ فيُصبحَ واحدًا من أهمِّ مَن يوَثِّقونَ الحياةَ البرِّيةَ في فلسطينَ؛ من خلالِ تصويرِها وإدراجِ معلوماتٍ عنها بالصورِ والفيديو.
وُلدَ “محمد الشعيبي” في عامِ (1986) في قريةِ دير غسانة (27 كيلومترًا شَمالَ غربِ رام الله) في وسَطٍ يعيشُ في ثنايا الطبيعةِ الفلسطينيةِ؛ إذْ تتمتعُ منطقةُ سكناهُ بوجودِ مَحميّةٍ طبيعيةٍ في الضفةِ الغربيةِ، أنهَى الدبلومَ في تخصُّصِ ميكانيك السياراتِ، ويعملُ في محلٍّ لبيعِ المجوهراتِ وسطَ رام الله.
هوايةٌ لا أكثرَ
يقولُ لـ “السعادة”: بدأتْ قصتي مع تصويرِ الطبيعةِ بنوعٍ من الهوايةِ لا أكثرَ؛ فأنا من الأشخاصِ المُحِبينَ للطبيعةِ بكُلِّ تفاصيلِها، أقضي غالبيةَ وقتي في تأمُّلِها والتعرُّفِ عليها؛ ومن هنا كانت بدايةَ الاحترافِ في عالمِ تصويرِ الطبيعةِ؛ لاسيَّما أنني أعيشُ في منطقةٍ تُشكّلُ مَحميّةً طبيعيةً خلّابةً؛ ما تُشاهِدُ في نهارِها يختلفُ كُليًّا عمّا تُشاهدُه في ساعاتِ الفجرِ الأُولى، وفى ساعاتِ الصباحِ الأُولى أيضًا.
ويضيفُ: كي أنجحَ في تصويرِ الحيواناتِ؛ يجبُ أنْ أكونَ جُزءًا من الطبيعةِ، فأيُّ إزعاجٍ للطيورِ والحيواناتِ؛ يَعني إخافتَها وإصابتَها بالهَلعِ؛ وبالتالي فقدانَ جَودةِ اللقطةِ التي أحاولُ اقتناصَها؛ أو هروبَ الكادرِ التصويري كُليًّا؛ منوِّهًا أنه خلالَ مرحلةِ التصويرِ؛ لا يلاحِقُ الحيواناتِ البريّةَ ولا يطاردُها؛ كما يفعلُ الصيادونَ ومصوِّرو الطبيعةِ الآخَرونَ؛ بل يذهبُ للسكونِ بجوارِها، والوجودِ بينَها دونَ أنْ تراهُ؛ وهذا يدفعُه أحيانًا إلى قضاءِ ساعاتٍ طويلةٍ بجانبِ أحدِ الطيورِ؛ والتخفِّي بينَ الأشجارِ ليَحصلَ على اللقطةِ التي يريدُها ويشاهدُها بأمِّ عينيهِ، فجمالُ الطبيعةِ بالعينِ المُجرّدةِ في حالتِها العاديةِ قِمّةٌ في الجمالِ والروعةِ؛ فأحاولُ قدرَ المستطاعِ توثيقَها كما هي، وقد نجحتُ في التقاطِ صورًا لطائرِ الشنّارِ من مسافةِ نصفِ مترٍ، وكذلك الحالُ مع الغزلانِ وحيواناتٍ كثيرةٍ أيضًا وثَّقتُ لها صورًا نادرةً جدًّا.
ويتابعُ: لا أمتلكُ أيَّ كاميراتٍ احترافيةٍ مخصَّصةٍ لهذا النوعِ من التصويرِ؛ حيثُ بدأتُ التصويرَ بكاميرا “جوّال” عاديةٍ؛ ثُم اشتريتُ كاميرا عاديةً بسيطةً؛ ثم اشتريتُ كاميرا أكثرَ تَطوُّرًا؛ بعدَ أنْ أُصِبتُ بــ”هوسَ حبِّ الطبيعةِ والحيواناتِ البرية”؛ لكنّ الشغفَ والحُبَّ الذي أعملُ فيه خلالَ مرحلةِ التصويرِ؛ هو ما يُعطيني هذه النتائجَ، والصورَ، والجودةَ في التقاطِها.
ويتابعُ: الانسجامُ مع الطبيعةِ جزءٌ من نجاحي؛ وهو التفسيرُ الوحيدُ لِمَقدرتي على الحصولِ على صورٍ لحيواناتِ وطيورِ فلسطينَ؛ وكأنها تقفُ إلى جانبي، أو أمامَ عينَيّ مباشرةً، وهي غالبًا _وللمفارقة” طيورٌ وحيواناتٌ لم يرَها أغلبُ المواطنينَ الفلسطينيينَ؛ حتى سكانَ “دير غسانة” أنفُسَهم؛ وهذا ما يجعلُ من صوَري عالَمًا تَوثيقيًّا غايةً في الأهميةِ.
صناعةُ الصورةِ
ويؤكّدُ: في كثيرٍ من المَرّاتِ، ومن أجلِ الحصولِ على صورةٍ واحدةٍ جيدةٍ لحيوانٍ ما؛ قد أضطَّرُ إلى قطعِ مسافةٍ تُقدَّرُ بـ (300) كيلومتر، وفى مرّاتٍ كثيرةٍ أمشي لساعاتٍ طويلةٍ على الأقدامِ، وأضطَّرُ في كثيرٍ من المرّاتِ للتردُّدِ على المكانِ لأكثرَ من ثلاثِ مراتٍ، وأحيانًا أضطَّرُ لزيارةِ المكانِ سبعَ مراتٍ على أملِ الحصولِ على الصورةِ التي أريدُها.
ويضيفُ: في كثيرٍ من المرّاتِ تمَّ منعي من الدخولِ إلى مناطقَ يسيطرُ عليها الاحتلالُ؛ رغم أنها داخلَ الضفةِ الغربيةِ؛ بحُجّةِ وجودِ مستوطناتٍ قريبةٍ، أو أنها مناطقُ مَحميّاتٍ طبيعيةٍ؛ وفي المقابلِ هذه المناطقُ مفتوحةٌ للمصوّرينَ الإسرائيليينَ، وإعطائهم المعلوماتِ الكافيةِ عن الطيورِ وأماكنِ وجودِها وتكاثُرِها.
يرى “الشعيبي” أنّ (90%) من المعلوماتِ التي ينشرُها برفقةِ الصوَرِ؛ لا يَعرفُها الناسُ، ولا يلاحظونَها أصلًا، فماذا يَعني عصفورٌ على شبّاكِ المنزلِ؟ وما نوعُه؟ وكيف يتكاثرُ؟ وأسئلةٌ كثيرةٌ حولَه بحاجةٍ إلى ثقافةٍ بيئيةٍ للحصولِ على هذه الإجابات .
ويستدركُ: اليومَ وبعدَ سنواتٍ من العملِ في هذا المجالِ؛ أستطيعُ القولَ أني أصبحتُ أمتلكُ خبرةً متراكمةً في كُلِّ شيءٍ يتعلّقُ بالتصويرِ؛ أعرِفُ أماكنَ تواجدِ الحيواناتِ والطيورِ، ساعاتِ نومِها وصَحوتِها، سلوكَها تجاهَ الضوءِ والحركةِ، أعرفُ الزاويةَ الناجحةَ لالتقاطِ الصورةِ بشكلٍ مناسبٍ، علاوةً على كَمِّ المعلوماتِ عن هذه الحيواناتِ والطيورِ، وطريقةِ عيشِها، وألوانِها وأنواعِها؛ ولكنّ مشكلتي الأساسيةَ لا تزالُ مستمرّةً بعدمِ وجودِ معدّاتٍ احترافيةٍ للتصويرِ، وللإضاءةِ، ولسرعةِ التقاطِ الصورةِ؛ ما يضطرُّني للتعاملِ مع الكاميرا التي أملكُها للحصولِ على أفضلِ النتائجِ؛ وهذا أحيانًا يَدفعُني لبَذلِ مزيدٍ من الجهدِ والوقتِ.
جَنّةٌ حقيقةٌ
ويضيفُ: الحالةُ التراكميةُ أيضًا موجودةٌ فيما أملِكُه من صوَرٍ توَثِّقُ مختلفَ أنواعِ الطيورِ والحيواناتِ في فلسطينَ، وفي جميعِ أماكنِ وجودِها؛ وهذا ما لا يتوافرُ عندَ أيِّ جهةٍ رسميةٍ أو أهليةٍ في فلسطينَ؛ حيثُ هناكَ غيابٌ كاملٌ للاهتمامِ بالحياةِ البَريّةِ أو التصويرِ والتوثيقِ لها؛ فحتى هذه اللحظةِ لم تتقدّمْ أيُّ جهةٍ رسميةٍ للاستفادةِ من مخزونِ الصورِ التي أمضيتُ سنواتٍ طويلةً في صناعةِ كوادرِها، وحتى على صعيدِ المبادَراتِ والحملاتِ الثقافيةِ التي تهدفُ إلى تأصيلِ كلِّ ما هو فلسطينيٌّ، أو بهدفِ استثمارِها في تقديمِ صورةِ فلسطينَ التي تُعَدُّ “جَنةً بكُلِّ ما تَحملُه الكلمةُ من مَعنى”.
ويتابعُ: كما نحن مُهدَّدونَ بسرقةِ أرضِنا، وحضارتِنا، وثقافتِنا، وتراثِنا، وأزيائِنا، وأكلاتِنا الشعبيةِ؛ أيضًا هناكَ محاولاتٌ حثيثةٌ لسرقةِ النباتِ، والحيوانِ، والحياةِ البريّةِ؛ ومع ذلكَ تتعاملُ الجهاتُ المختصّةُ لَدَينا بكاملِ التهميشِ! أوَّلاً للمَحميّاتِ الطبيعيةِ الموجودةِ في فلسطينَ؛ كأمكِنةٍ وممتلكاتٍ، وثانيًا بالأشخاصِ الذين كرَّسوا جزءًا من أوقاتِهم للاهتمامِ بالحياةِ البريّةِ والمحافظةِ عليها.
علاوةً على عدمِ وجودِ قانونٍ رادِعٍ لمَن ينتهِكُ حُرمةَ هذه المَحمياتِ_ عبرَ الصيدِ الجائرِ_ منوِّها: أني غالبًا ما أنشرُ جديدَ صوَري دونَ أنْ أحدِّدَ مكانَ التصويرِ؛ مَخافةَ أنْ يَعرفَ مَن يمتهِنونَ الصيدَ الجائرَ مكانَها؛ ويذهبوا لصيدِها. ويؤكّدُ مصوِّرُ الحياةِ البريّةِ أنّ غيابَ التوعيةِ والاهتمامِ الحكومي؛ يخلقُ حالةً من الإهمالِ الكبيرِ لجانبِ الحيواناتِ البريّةِ، حيثُ تنتشرُ مهنةُ وهوايةُ الصيدِ الجائرِ في المناطقِ الفلسطينيةِ؛ وهو ما تركَ أثرًا كبيرًا على الحيواناتِ التي تعيشُ في بريّةِ فلسطينَ، فَعددُ الحيواناتِ التي انقرضتْ؛ أو في طريقِها للانقراضِ يتزايدُ..؛ وعلى سبيلِ المثالِ: طائرُ الحَسُّون، والغزلانُ، والحجلُ الذي يُعرفُ بـ”لشِّنار” وكذلكَ الأمرُ نفسُه مع الضباعِ.
ثقافةٌ راسخةٌ
ويواصلُ: هناكَ ثقافةٌ شعبيةٌ راسخةٌ؛ تقودُ إلى قتلِ بعضِ الحيواناتِ التي تُعدُّ أساسيةً في البريّةِ الفلسطينيةِ؛ ومنها (البومةُ والضبعُ، والحرباءُ)، حتى مسألةُ الاهتمامِ من بعضِ المجلاتِ العربيةِ والعالميةِ بالحيواناتِ الفلسطينيةِ، هي اهتمامٌ _للأسف_ جاءَ عبرَ تشويهِ تاريخِها، وربطِها بإسرائيلَ، مِثلَما فعلتْ قبلَ فترةٍ مجلةُ “ناشونال جيوغرافيك” التي نشرتْ صورةً للغزالِ؛ وسمَّتهُ “الغزال الإسرائيلي”!
ويرى “الشعيبي” أنّ جدارَ الفصلِ العنصري؛ يشكّلُ أكبرَ مصدرِ تهديدٍ وضَررٍ بالحيواناتِ البريّةِ الفلسطينيةِ، فهو عملَ على قطعِ تَواصُلِ هذه الحيواناتِ مع امتدادِها الجغرافي، ومنعَ تنَقُلَها، وحاصَرَها؛ إذْ بشكلٍ يوميٍّ نَجِدُ طيورًا أو حيواناتٍ ميتةً بسببِ الجدارِ أوِ الأسلاكِ الشائكةِ، فكَما قسمَ الجدارُ البشرَ؛ قسمَ الحيواناتِ، وأعاقَ حركتَها الطبيعيةَ التي أودَتْ إلى هلاكِها؛ لِذا على المُختصِّينَ بشكلٍ دائمٍ الحديثَ عن هذه الظاهرةِ؛ لاسيّما وأنّ العالمَ يهتمُّ بالطبيعةِ بشكلٍ لا يَقِلُّ عن السياسةِ.
ويضيفُ: “دولةُ الاحتلالِ تدركُ قيمةَ الحيواناتِ البريّةِ؛ وهي تستغلُّها من أجلِ تعزيزِ صورتِها كدولةٍ تعملُ على حمايةِ الحيواناتِ، ففي فلسطينَ المحتلةِ مَثلاً؛ يَنشطُ الاحتلالُ في “سياحةِ مراقبي الطيورِ”؛ وهو أمرٌ يرتبطُ بالأثرياءِ على مستوى العالمِ؛ علاوةً على أنّ الذين يعملونَ في مهنةِ تصويرِ الحيواناتِ البرّيةِ في دولةِ الاحتلالِ؛ يَحصلونَ على أعلَى الرواتبِ، وتُقدَّمُ لهم كلُّ التسهيلاتِ؛ مِثلَ جيباتِ الدفعِ الربُّاعي، والمعدّاتِ اللازمةِ، فكُلُّ صورةٍ تَخرجُ للعالمِ؛ تَعكِسُ من وِجهةِ نَظرِهم سُمعةَ دولةِ الاحتلالِ، وتَخلقُ انطباعًا إيجابيَّا عنهم.
هذا إلى جانبِ أنّ هناكَ قوانينُ وإجراءاتٌ حازمةٌ؛ تَمنعُ من خلالِها الصيدَ؛ حيثُ يفرضُ الاحتلالُ غراماتٍ ماليةً كبيرةً جدًّا؛ وهو ما يجعلُها مليئةً بالحيواناتِ البرّيةِ، أمّا في مناطقِ الضفةِ الغربيةِ؛ فتَتناقَصُ أعدادُها؛ لأنّ الجهاتِ الرسميةَ فشِلتْ في منعِ الصيدِ الجائرِ، ولكَونِ الجدارِ أغلقَ مجالَ الحركةِ أمامَها _بحسبِ الشعيبي_.
حُبُّ الطبيعةِ، والخوفُ عليها؛ هو ما يَدفعُ “محمد” _الذي باتتْ علاقتُه مع الطبيعيةِ علاقةً عائليةً تُعرفُ بـ”الذهابِ للجبلِ” لدَى زوجتِه وصغارِه_ للتوصيةِ بحمايةِ فلسطينَ من الصيدِ الجائرِ، وهذه أهمُّ رسالةٍ أتوَجَّهُ بها إلى كُلِّ أبناءِ شعبي”، وأضيفُ عليها: “اتركوا حيواناتِ فلسطينَ بسلامٍ، ففلسطينُ ورغمَ أنها محتلَّةٌ؛ إلّا أنها جنةُ اللهِ على الأرض.