Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
تقارير

خمسةٌ وسبعون كيلوًا، وثلاثةُ أيامِ زفّةُ شهيدةِ الوطنِ والواجبِ إلى القدسِ

 

تقرير : السعادة

في وَداعِ الشهيدةِ كان المَشهدُ مُحَبَّبًا للنفوسِ؛إنه أشبَهُ بالمشهدِ الذي عُرضَ قبلَ ذلكَ في أعمالٍ فنيّةٍ تحتَ عنوانِ “مَشهدُ التحريرِ”، لحظةُ تَحرُّرٍ مُنتَظرةٌ في شوارعِ القدسِ العتيقةِ؛ مرسومةٌ في ذاكرةِ الجمعيةِ الفلسطينيةِ، طُوفانٌ بَشريٌّ جاءَها من كلِّ حَدبٍ وصَوبٍ؛ رافعًا علمَ فلسطينَ؛ لتشييعَ الصحفيةِ الشهيدةِ “شيرين أبو عاقلة”، وجارِفًا من شوارِعِها عَلمَ الغُزاةِ.

لم تَخلِفْ القدسُ مَوعِدَها ووَعدَها؛ فودَّعتْ ابنتَها في أكبرِ جنازةٍ تَشهدُها العاصمةُ منذُ رحيلِ أميرِ القدسِ “فيصل الحسيني” عامَ (2001)، فَقُرعتْ كُلُّ أجراسِ الكنائسِ سَوِيَّةً لأولِ مرّةٍ منذُ مئاتِ السنواتِ حزنًا وحدادًا عليها، وصلَّى المسلمُ إلى جانبِ المسيحي في صلاةِ وَداعِها الأخيرِ، وارتفعتْ الدعواتُ إلى السماءِ؛ في مَشهدٍ لا يَحدُثُ إلا إذا رَعتْ السماءُ ذلكَ.

والقدسُ التي تَعرفُ “شيرين” أكثرَ مِنّا، وتَعرفُ كِلتاهما كَسْرَ الحواجزِ؛ فلا تَخضعانِ لقوانينِ الاحتلالِ كما اعتادَتا دومًا، كانتا استثنائيتَينِ في مَلحمةِ الوَداعِ، فقَهرَتا الاحتلالَ؛ وداسَتا على شروطِ التشييعِ، حُملَ النعشُ فوقَ الأكتافِ رغمًا عن هَراواتِ شرطةِ الاحتلالِ، ورَفرفَ العَلمُ ساميًّا عاليًّا؛ فابتسمتْ سماءُ المدينةِ رغمَ الحزنِ، وصدَحتْ الحناجرُ لفلسطينَ، فضاقتْ القدسُ أكثرَ على مُحتلِّيها.

مَلحمةُ الوَداعِ

ملحمةُ الوداعِ الطويلةُ؛ بدأتْ في “جِنين”؛ لأنها البدايةُ والسّرُّ، وفي ترابِها خبّأتْ “شيرين” بعضَ دمائها، ومن أرضِها صعدتْ روحُها إلى خالقِها، لم يَكُنْ لأهلِ المدينةِ أنْ يَسمحوا بمغادرتِها دونَ تشييعٍ يَليقُ بها، يُكرِّمونَها بالبكاءِ والحزنِ ورصاصِ المقاومينَ؛ الذين حَملوها على أكتافِهم ملفوفةً بالعَلمِ الفلسطينيّ، تحتَ ظِلالِ بنادقِهم.

“فشيرين” لدَى أهلِ المدينةِ ومُخيَّمِها، قيمةٌ عاليةٌ؛ واسمٌ حاضرٌ في كلِّ بيتٍ وذِكرى، وهي التي كانت صَوتَهم وصورتَهم في أقسَى ظروفِهم قبلَ سنواتٍ؛ حين كانوا يواجِهونَ الموتَ في اجتياحِ (2002)، فبَكتْ مع أُمّهاتِ الشهداءِ، ورَبتتْ على أكتافِ أُمهاتِ الأَسرى، وواستْ مَن هُدِمَ بيتُه، فكان تشييعُها بتلكَ الصورةِ قُبلةَ محبّةٍ على جَبينِها.

“أم أحمد فريحات التي احتلّتْ صورتُها المقاطعَ الأولى من صدمةِ اغتيالِ “شيرين”، إذْ خرجتْ باكيةً في تشييعِ الشهيدةِ؛ واختصرتْ حكايةَ المدينةِ مع “شيرين” قائلةً:” إنّ “شيرين” خاضتْ معركةَ جِنين “من أولِ يومٍ لآخِرِ يوم” وكانت تبحثُ عن الشهداءِ مع الأهالي، تعيشُ مع أهلِ “جنين” معركتَهم وأوجاعَهم.

بعدَ ساعاتٍ من الترَقُّبِ؛ انتهَى تشييعُ “شيرين أبو عاقلة” في جنين، وكانت المحطةُ الثانيةُ مدينةَ “نابلس” التي كانت تقفُ على قدمٍ واحدةٍ بانتظارِ قدومِها؛ من أجلِ تشريحِها في معهدِ الطبِّ العَدليّ في جامعةِ النجاحِ؛ لكنّ القُرى والبلداتِ الواقعةَ بينَ “جنينَ ونابلس” لم تكنْ تَسمحُ بمرورِ “شيرين” مرورَ الكرامِ؛ دونَ أنْ يؤدُّوا التحيةَ لها، فقد أغلقَ الأهالي في بلدةِ “السيلة” الظهرَ أبوابَ محالِّهم التجاريةِ؛ واصطَفوا على جوانبِ الطريقِ بانتظارِ مرورِ الجثمانِ في سيارةِ الإسعافِ حيثُ اعترضوهُ، ومنَعوا مرورَه إلّا بعدَ تأديةِ السلامِ والوَداعِ والعرفانِ والتحيةِ لها، وتشييعِها في البلدةِ ولو لبضعِ دقائقَ.

وفي “نابلس” حيثُ أُجريَ تشريحُ جسدِ “شيرين أبو عاقلة”؛ للوقوفِ على تفاصيلِ اغتيالِها، وشُيِّعتْ في مراسمَ شعبيةٍ ورسميةٍ في شوارعِ المدينةِ، فقد حُملتْ على الأكتافِ، واصطَفَّ المواطنونَ على جوانبِ الطرُقاتِ؛ لإلقاءِ نظرةِ الوَداعِ الأخيرةِ عليها، مُعتمِرةً الكوفيّةً، وملفوفةً بالعلمِ الفلسطينيّ، وتُليَتْ عليها الصلواتُ والدعواتُ.

عروسُ كُلِّ المُدنِ

في رامَ الله، كان مكتبُ الجزيرةِ، والشارعُ الواقعُ أمامَه يضجُّ بالصحفيينَ والمواطنينَ منذُ ساعاتِ الصباحِ، وهم يترقّبونَ لحظةَ وصولِ “شيرين” إليهم، كان الوقتُ بطيئًا عليهم، أمضوهُ في البكاءِ؛ إلى أنْ وصلتْ سيارةُ الإسعافِ التي تُقِلُّها.. فانفجرَ البكاءُ، وأُلقيَتْ النظرةُ الأخيرةُ عليها، ووَدَّعها الزملاءُ.

ورغمَ أنّ تشييعَ “شيرين” المُعلَنِ كان محدَّدًا في اليومِ التالي، في مقرِّ الرئاسةِ في المقاطَعةِ؛ وبمشاركةِ الرئيسِ “عباس”؛ إلَّا أنّ الشبانَ الذين حضروا إلى مكتبِ الجزيرةِ؛ رفضوا ذلكَ.. وحملوا الجثمانَ وساروا فيه في شوارعِ مدينةِ رام الله؛ بمشاركةِ المئاتِ من المواطنينَ؛ لتستيقظَ رام الله في اليومِ الثاني على موعدِ وَداعِ “شيرين” الأخيرِ.

انقسمَ المواطنونَ بينَ مَن تَوجَّهَ إلى المستشفى الاستشاري؛ حيثُ كان جثمانُها مُسجَى، وبينَ مقرِّ الرئاسةِ؛ حيثُ سيَتِمُّ استقبالُها وتشييعُها؛ حيثُ حَظيَتْ بجنازةٍ رسميةٍ حضرَها الآلافُ، بينَهم شخصياتٌ رسميةٌ فلسطينيةٌ، ودبلوماسيونَ أجانبُ، فحظيَتْ بتشييعٍ مهيبٍ استمرَّ مع خروجِها من المقاطعةِ؛ وبعدَ ذلك مرورِها بمخيمِ “قلنديا”؛ حتى دخولِها إلى القدسِ عبرَ الحاجزِ العسكريِّ في المخيّمِ؛ حيثُ كانت الوجهةُ إلى المستشفَى الفرنسي، فاستقبلَها المشيِّعونَ وزملاؤها بالورودِ؛ وجالوا فيه مُردِّدينَ الهتافاتِ الوطنيةِ.

الجمعةُ الموعدُ الأخيرُ مع “شيرين”؛ حيثُ خرجَ الآلافُ في تشييعِها رغمَ حواجزِ الاحتلالِ، والانتشارِ المكثّفِ لعناصرِه الذين مَنعوا الآلافَ من الوصولِ إلى موكبِ التشييعِ، فأُقيمتْ الصلاةُ عليها في كنيسةِ الروم الكاثوليك، وحُملتْ على الأكتافِ؛ ومرّتْ بجانبِ بابِ الخليلِ والآلافُ يهتفونَ باسمِها، ولأولِ مرّةٍ في القدسِ_ منذُ مئاتِ السنواتِ_ قُرعتْ أجراسُ الكنائسِ في وقتٍ واحدٍ؛ ورفعَ المشيّعونَ علمَ فلسطينَ؛ رغمَ اعتداءاتِ واعتقالاتِ عناصرِ الشرطةِ للشبانِ؛ إلى أنْ وصلتْ إلى مثواها الأخيرِ.

رَدُّ الجميلِ

“أحمد مصطفى” مراسلُ “السعادة” يقولُ:” أثناءَ تغطيةِ جنازةِ الشهيدةِ “شيرين أبو عاقلة” _رحمَها اللهُ_ كان الوضعُ استثنائيًّا بكُلِّ المقاييسِ؛ نالت فيه “شيرين” التكريمَ الذي تستحقُّ، وكان  ردًّا للجميلِ، وشُكرًا على ما قدّمتْهُ خلالَ مسيرتِها المِهنيةِ الطويلةِ والحافلةِ في نقلِ الروايةِ والصورةِ الفلسطينيةِ، وهنا لا أتحدّثُ عن مشهدِ جنازةِ القدسِ المهيبِ؛ بل عن الجنازاتِ المتعاقبةِ التي لم تتوقّفْ في كُلِّ مُدنِ الوطنِ.

ويضيفُ:” انطلقتْ الجنازةُ من “جنين” ومخيمها بتكريمٍ استثنائي من المقاومينَ الذين حَملوها على الأكتافِ؛ حيثُ أوقفَ الناسُ الموكبَ لتوديعِها وتكريمِها، وفي “نابلس” انطلقتْ الجنازةُ الثانيةُ بعدَ الانتهاءِ من تشريحِ جثمانِها، وفي رامَ الله الجنازةُ الثالثةُ فَورَ وصولِها إلى مكتبِ الجزيرةِ، وفي اليومِ الثاني الجنازةُ الرسميةُ في مقرِّ الرئاسةِ، ثُم إيقافُ أهالي مخيّمِ “قلنديا” لها لوَداعِها، قبلَ أنْ نتابعَ جنازتَها الأخيرةَ اليومَ من بعيدٍ؛ لأننا لا نستطيعُ الوصولَ إلى القدسِ.

ويتابعُ: ثُم جاءَ تكريمُ المَقدسيّينَ الذين طالَما كانت بجانبِهم؛ ليقولوا إنّ القدسَ لهم، وفى وَداعِها أيضًا أعطتْهم ذاتَ المساحةِ ليُثبِتوا أنّ القدسَ لهم؛ رغمَ اعتداءاتِ الاحتلالِ الأليمةِ، ووحّدتْ الجميعَ بكُلِّ الأبعادِ السياسيةِ والدينيةِ، وهذا التوَحدُ العَفوي للجميعِ يُدَلِّلُ على وَعيٍّ فلسطينيٍّ كبيرٍ بدَورِ الإعلامِ الحقيقِ في الدفاعِ عن قضاياهم.

ثلاثةُ أيامٍ هو العمرُ الزَّمني لجنازةٍ شُيّعتْ فيها “شيرين أبو عاقلة” على امتدادِ البلادِ بكثيرٍ من الحُبِّ والامتنانِ والدموعِ؛ إلى أنْ أُسدِلَ الستارُ عليها في القدسِ؛ حيثُ كانت تحبُّ أنْ تكونَ في أرفعِ منزِلةٍ يسعَى إليها الفلسطينيونَ جُلَّ حياتِهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى