اغتيالُ “شيرين أبو عاقلة” حلقةٌ من حلقاتِ النكبةِ الفلسطينيةِ
حينما احتلَّ الكيانُ الصهيوني فلسطينَ؛ لم يَتِم توثيقُ جرائمِها عبرَ ماكنةٍ إعلاميةٍ فلسطينيةٍ أو عربيةٍ لضعفِ الإمكاناتِ في ذاكَ الوقتِ .
لكنْ في المقابلِ؛ كان هناك بعضُ التوثيقِ من المؤسساتِ الإعلاميةِ الأوربيةِ؛ حتى لو كانت بالأبيضِ والأسوَدِ، و نرَى بعضَ ملامحِه في برامجِهم الوثائقيةِ؛ ولكنْ ليس جُلُّه
فَجَلُّه يكشفُ مدَى همجيةِ هذا المحتلِّ؛ الذي عملَ على إحلالِ دولتِه محلَّ سكانِ الأرضِ الحقيقيّينَ ، من المؤكّدِ أنّ هناك توثيقًا خاصًّا به لخطواتِه الداميةِ لاحتلالِ أرضِنا، ومشاهدَ المذابحِ المروّعةِ التي حدثتْ فيها؛ كمَذبحةِ “دير ياسين”، ومَجزرةِ قريةِ “أبو شوشة”، ومذبحةِ طنطورةِ، التي كان عنوانُها آنَ ذاكَ التطهيرَ العِرقي للبلادِ، ولكنها ستبقَى طيَّ أرشيفِهم فيها؛ تُقبّحُ وجوهَهم، وتُظهرُ سوءَتَهم أمامَ العالَمِ الذي لا يرى مظلوميةَ الفلسطينيِّ؛ بِقدْرِ ما يرى حقَّ اليهوديّ أنْ يعيشَ بأمانٍ .
لهذا فالمَشاهدُ التي صوّرتْ تلكَ الفتراتِ والمعاناةِ المتلاحقةِ للفلسطينيّ المذبوحِ؛ عبرَ مُسلسلِ التغريبةِ الفلسطينيةِ؛ الذي رسمَ تلكَ الحقبةِ الزمنيةِ في أذهانِ الأجيالِ الصغيرةِ؛ وأعادَ مرارتَها في أرواحِ الكبارِ منها .
ولهذا كله كان اغتيالُ “شيرين أبو عاقلة”، الصحفيةِ الفلسطينيةِ التي عاشت عَقدينِ ونصفٍ؛ وهي تلهثُ لتُظهرَ الحقيقةَ التي غيَّبها الاحتلالُ، وأنّ يدَه تخضَّبتْ بدماءِ الآلافِ من أصحابِ الأرضِ، وأنه حرقَ الأخضرَ واليابسَ ليُضيِّقَ على أهالي القرَى والمُدنِ الفلسطينيةِ في غزة والضفةِ والداخلِ ليُرغِمَهم على الاستسلامِ أو الرحيلِ أو الرِّضا بقشورِ الحلولِ .
فكان القرارُ الأخرَقُ بتصفيتِها؛ فقد أظهرتْ وسائلُ الإعلامِ سوءةَ غبائهِ وهمجيّتِه وفشلِه في السيطرةِ التامّةِ على الضفةِ، مع كلِّ الاعتداءاتِ المتتاليةِ، والمساعدةِ غيرِ المشروطةِ من السلطةِ الوطنيةِ وأجهزتِها؛ بما يُسمَّى بالتنسيقِ الأمنيّ هناكَ؛ فأرادَ أنْ يُغيّبَ الصورةَ، ويُسكِتَ الصوتَ، ويَطمسَ الحقيقةَ، فلم يَعُدْ الحاضرُ كالماضي؛ يَقتلُ ثُم يُهروِّلُ ليبكي على عتباتِ حلفائهِ وأوليائهِ، وينالَ التعاطفَ والدعمَ لصهيونيتِه ، فتَجِدَ في هذه العقودِ الأخيرةِ مَن أوصلَ الصورةَ الحقيقةَ؛ فآذتْهُ بينَ شعبِه وداعميهِ .
“فشيرين” لم تكنْ الشهيدةَ الأولَى في الأسرةِ الصحفيةِ الفلسطينيةِ ؛ ففي عامِ (1972) اغتالوا الأديبَ الصحفي “غسان كنفاني”، و”ناجي العَلي” عامَ (1987)، و”سمير قصير” عامَ (2005)، و ليس ببعيدٍ “فضل شناعة” الذي قتلوهُ على الهواءِ مباشرةً عامَ (2008)، و”ياسر مرتجى، وأحمد أبو حسين” عامَ (2018) في مسيراتِ العودةِ، مسيراتِ العزلِ التي لم يَحملوا فيها سِوَى صكوكِ حقِّهم الذي سُلبَ منهم طويلاً.
ولن تكونَ “شيرين” الأخيرةَ في بقعةٍ ساخنةٍ؛ يحاولُ العدوُّ السيطرةَ عليها بكُلِّ ما أوتيَ من قوةٍ ؛
ولكنه يجبُ أنْ لا يُفلِتَ هذه المرّةَ.. ويجبُ تقديمُه للعدالةِ الدوليةِ؛ ويقعُ ذلكَ على عاتقِ قناةِ الجزيرةِ أولاً؛ وهذا أقلُّ ما يُقدَّمُ لصحيفةٍ مُخضرَمةٍ قدّمتْ كلَّ ما لدَيها ..
أمّا دَورُنا نحن الفلسطينيّينَ؛ فهو دَورٌ “الذوِي والوَلي”، فنحن أحسَنَّا مُقارعةَ العدوِّ شعبيًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا؛ وأخفقْنا في مقارعتَه قانونيًّا لأسبابٍ عديدةٍ؛ أوَّلُها ضعفُ النظامِ السياسي الرسمي، الذي لم يستطِعْ أنْ يعملَ في هذا الحقلِ؛ مقدِّمًا مظلوميتنا على طاولةِ القانونِ الدولي.
فعلتْ “شيرين” بِموتِها أكثرَ ما فعلتْ في حياتِها الصحفيةِ العَقدينِ والنصفِ ؛
فقد نبّهتْ الكُلَّ ؛ أنَّ هذا الكيانَ لا يَحفظُ حُدودًا، ولا يَحترمُ قوانينَ؛ حتى لو كانت تلكَ القوانينُ الحاميةَ للعملِ الصحفي دوليًّا .
موتُ “شيرين” جمعَ الكُلَّ، ووَحّدَ الطوائفَ، ورسمَ لوحةَ وفاءٍ وعِزٍّ؛ لم تُرسَمْ لصحفيٍّ من ذي قبلُ في كُلِّ العالمِ .
فالرحمةُ والسلامُ لِروحها، والقوةُ لمَن سيَسيرُ خلفَها .