
تحقيق : السعادة
أصبحتْ وسائلُ التواصلِ الاجتماعي رُكنًا أساسًا من أركانِ حياتِنا، ولا يُنكِرُ أحدٌ أنَّ الجميعَ _بلا استثناءٍ_ يستخدمونَ هذه الوسائلَ بينَ الحينِ والآخَرِ، ولفتراتٍ طويلةٍ، فالشخصُ قد يضطّرُ لِيَطلَّ سريعًا على حسابِه على موقعِ (فيس بوك، أو تويتر، أو أنستجرام)؛ ولكنّ هذه الطلّةَ قد تستمرُّ لساعاتٍ.
ولا شكَّ أنّ هذه الوسائلَ تستنزفُ من عُمرِنا ساعاتٍ طويلةً يوميًا، رُبما كان الأَولى استخدامَها في أشياءٍ مفيدةٍ؛ خاصةً ونحنُ في شهرِ الصيامِ، بالإكثارِ من العباداتِ التي تقرِّبُنا إلى اللهِ؛ أو تَعلُّمِ مهارةٍ جديدةٍ؛ ولكنْ حين تتحولُ حياتُنا الرمضانيةُ، وسُفَرُنا وزياراتُنا للتباهي عبرَ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي؛ هنا يَكمُنُ الخطرُ .
حسبَ إحصاءاتٍ جديدةٍ أُخذت من “داتا ريبورتال” و”ستيتس برو”، “برودباند سيرش”، بتاريخِ (يوليو/تموز 2021)؛ أظهرتْ الإحصاءاتُ المثيرةُ واللافتةُ المتعلّقةُ باستخدامِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي _بشكلٍ عامٍّ_ والتي قد تَجعلُنا نعيدُ النظرَ أو التفكيرَ في طريقةِ استخدامِنا لتلكَ الوسائلِ، التي تسرقُ الساعاتِ من أيامِنا بشكلٍ لم نَكُنْ نَتخيَّلُه، توضِّحُ التالي:
أكثرُ من نصفِ سكانِ العالمِ حاليًّا، البالغِ عددُهم (7.87) مليارات نسمة، يستخدمونَ وسائلَ التواصلِ الاجتماعي. (4.80) مليارات شخص حولَ العالمِ يستخدمونَ “الإنترنت” حتى (يوليو/تموز 2021)، بزيادةِ (316) مليونًا (7.3%) عن عددِهم بمِثلِ هذا الوقتِ من العامِ الماضي، ويشكّلونَ ما نسبتُه (60.9%) من سكانِ العالمِ. (4.48) مليارات شخص؛ يستخدمونَ وسائلَ التواصلِ (بحسبِ إحصاءاتِ يوليو/تموز 2021)، ويشكّلُ عددُ مُستخدمي وسائلِ التواصلِ حاليًّا نسبةَ (56.8%) من سكانِ العالمِ. (520) مليونَ مستخدمٍ جديدٍ انضموا إلى استخدامِ وسائلِ التواصلِ في الـ (12) شهرًا الأخيرةِ من (يوليو/تموز2021).
تشيرُ تلك الأرقامُ إلى أنّ أكثرَ من (9 من كل 10) مستخدمين للإنترنت؛ يستخدمونَ الآنَ وسائلَ التواصلِ كلَّ شهرٍ. ويملكُ الشخصُ العادي حساباتٍ على أكثرَ من (9) شبكاتِ تَواصل مختلفةٍ. ويستخدمُ الشخصُ العادي؛ أو يزورُ بنشاطٍ ما متوسِطُه (6.6) منصاتِ وسائطَ مختلفةٍ كلَّ شهرٍ، ويقضي ما يقربُ من ساعتينِ و(30) دقيقةً باستخدامِ وسائلِ التواصلِ يوميًّا.(%91) من مستخدمي وسائلِ التواصلِ يَصِلونَ إليها عبرَ أجهزتِهم الجوالةِ.
عوالمُ افتراضيةٌ
آية شحادة (34) عامًا، متزوجةٌ ولدَيها أربعةُ أبناءٍ ، تقول:” مواقعُ التواصلِ الاجتماعي أثّرتْ على حياتِنا بشكلٍ كبيرٍ؛ وأخذتْنا من علاقاتِنا وحياتِنا، وخلقتْ فجوةً بينَ الأهلِ والأصدقاءِ. وتقول:” علينا في رمضانَ أنْ نستشعِرَ عظمةَ الشهرِ الكريمِ؛ ونعيشَ أجواءَه الروحانيةَ وعبادتَه؛ فهُو فرصةٌ ليَجمعَنا ويقرِّبَنا لنعملَ على اغتنامِ الفرصةِ؛ ونَرجِعَ لأيامِ زمانٍ.. للأسفِ اليومَ أصبحتْ تُقامُ السُّفَرُ في رمضانَ من أجلِ التصويرِ، والتباهي بها عبرَ (الفيس والانستا)، وهذا يكلّفُ ميزانيةً جديدةً، ويخلقُ نوعًا من المشاكلِ بسببِ المقارناتِ والتقليدِ وسرقةِ الوقتِ دونَ أنْ نشعرَ .
تضيفُ:” تكنولوجيا اليومِ لا يُمكنُ فَصلُها عن تفاصيلِ الحياةِ اليوميةِ، نحنُ اليومَ نعيشُ في عوالمَ افتراضيةٍ عبرَ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي؛ وبالتالي رمضانُ لن يَخرجَ من هذا القالبِ، فكما نَخسرُ اجتماعياتِنا يومًا بعد يومٍ؛ فإننا سنَخسرُ عباداتِنا يومًا بعدَ يومٍ؛ إذا استمرّينا على هذا الحالِ في رمضانَ.
تتابعُ :”اعتمدتُ العامَ الماضي على فرضِ نظامٍ مُعيّنٍ على أبنائي؛ عندما يتواجدونَ في أيِّ جلسةٍ عائليةٍ، خاصةً بمَنعِ وحَظرِ استخدامِ برامجِ التواصلِ الاجتماعي؛ لأنّ ذلكَ من التجاوُزاتِ التي لا أقبلُ بها؛ كَونَها تُبعِدُ المُجتمعينَ عن التواصلِ الحقيقِ بينَهم ؛ وبالتالي تَفصلُ الإنسانَ عن حياتِه الواقعيةِ وعبادتِه ، وقد اتفقتُ مع زوجتي على تَشغيلِ (راوتر الإنترنت ) في أوقاتٍ مُعينةٍ: وقتَ الظهيرةِ، وبعدَ صلاةِ التراويح ، والحمدُ للهِ لقد وجدتُ نتيجةً جيدةً، وعِشنا رمضان بكُلِّ روحانياتِه.
في حين تقولُ أمال عيد:” لقد كنتُ أمتلكُ حسابَينِ على (الفيس بوك) وآخَرَ على (تويتر)، وكان نِصفُ وقتي أقضيهِ على تلكَ المواقعِ؛ حيثُ أنها كانت تَجذِبُني بشكلٍ غريبٍ، كما أنّ الحديثَ مع الصديقاتِ والأهلِ، ومتابعةَ ما يفعلونَه عليه؛ يأخذُني إلى عالمٍ آخَرَ؛ ويَفصِلُني عن نفسي، حتى في شهرِ رمضانَ السابقِ، كان جميعُ وقتي عليه؛ حتى وجدتُ أنه يضيّعُ الوقتَ ليس في شهرِ رمضانَ فحسْب؛ بل طيلةَ العامِ.
وتضيفُ: الكثيرُ من الفتياتِ يتابعنَ صفحاتِ الأكلِ والحلوياتِ والعصائرِ؛ ويصبحُ شغلُهنَّ الشاغلُ التقليدَ وعملَ وصفاتٍ؛ والتالي تكاليفَ باهظةً تُرهِقُ ميزانيةَ الأسرةِ؛ فالأفضلُ أنْ نبتعدَ عن متابعةِ مواقعِ التواصلِ؛ حتى لا تُفقِدَنا حلاوةَ الشهرِ .
عَظَمةُ الشهرِ
في حين يرى “أنس مدوخ” : علينا في شهرِ رمضانَ الابتعادَ عن مواقعِ التواصلِ وعن الإدمانِ عليها؛ حتى لا نُضيّعَ عظمةَ الشهرِ الكريمِ، فيقولُ:”إنّ على الأُسرِ أنْ تأخُذَ على عاتقِها فرضَ تغييرِ عاداتِ أفرادِ الأسرةِ من الأبناءِ وغيرِهم من الكبار؛ خاصةً العمّاتِ والخالاتِ في رمضانَ، وجعلِ احترامِ هذا الشهرِ من أَولَوياتِها، وإعطاءِ رمضانَ القُدسيةَ التي يَستحقُها؛ وذلك لأنه من عامٍ لآخَرَ أصبح الناسُ غيرَ مُبالينَ بالقيمةِ الدينيةِ له! وبالتالي انشغلوا عنه إلى ما هو أقلُّ أهميةً عبرَ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي.
أمّا حسونة الداية (44) عامًا فيقول:” علينا التحكُّمُ بأنفُسِنا ونحنُ على مواقعِ التواصلِ الاجتماعي؛ خاصةً أنها تَحظَى بحضورٍ كبيرٍ حتى في شهرِ رمضان؛ بل إنّ البعضَ أصبح أكثرَ حضورًا، خاصةً الدعاةَ والشبابَ المُلتزمينَ؛ انتهازاً منهم للفرصةِ بالنصحِ والارشادِ ؛لأنّ الإنسانَ يكونُ على استعداد لتَلقّي النصائحِ والتوجيهاتِ في هذا الشهرِ؛ طلبًا للتقرّبِ إلى اللهِ.
ميرا عوض (23) عامًا، اعتادت التواجدَ على مواقعِ التواصل طوالَ الوقتِ؛ حيثُ تتواصلُ فيها مع صديقاتِها وأقاربِها ومعارفِها ؛ وهي ترى أنّ التواصلَ ضروريٌّ حتى في رمضان، ولا تتوقّعُ أنها يمكنُ أنْ تتوقفَ عنه؛ كونَه يُبقيها على تواصلٍ عائليٍّ مُهمٍّ مع الجميعِ.
وتَعُدُّ ذلك نوعًا من صِلةِ القُربَى؛ تَحتسِبُ فيه الأجرَ؛ لكنها في جانبٍ آخَرَ، ترى أنّ مضمونَ التواصلِ ومواضيعَه يأخذُ شكلاً مختلفًا في رمضان، وتحاولُ فيه تجنّبَ الخوضِ في المهاتراتِ أو الَّلغوِ، أو تبادُلِ الموضوعاتِ الخارجةِ عن الأدبِ أو الذوقِ، أو ذاتِ التوجُهاتِ المَشبوهةِ؛ بما في ذلك النكاتُ والفكاهاتُ غيرُ اللائقةِ، وقد دأبتْ عليه منذُ سنواتٍ، وتحاولُ أنْ تسيرَ عليه حتى في غيرِ رمضان؛ دَرءًا للانفلاتِ الذي كَثُرَ في مِثلِ هذه المواقعِ.
ترى هِبة عبيد “27 عاماً ” أنّ العيبَ ليس في برامجِ التواصلِ الاجتماعيةِ؛ فهي مفيدةٌ وقيّمةٌ من ناحية، لكنّ تعامُلَ الناسِ وتَعاطيهم فيها؛ يأخذُ تجاوزاتٍ قد تَعودُ لحالةِ الكبتِ أو الضغوطِ الاجتماعيةِ، والظروفِ النفسيةِ التي يَمرُّ بها، وفي رمضانَ تأخذُ هذه المواقعُ وِجهاتِ تفكيرِ الناسِ، وتَكشفُ ما هم عليه من الأحوالِ، سواءٌ من تَبادلِ النُّكاتِ أو التعليقاتِ والفيديوهاتِ وغيرِها من الرسائلِ، وبينما يُفترضُ أنْ تتوافقَ مع ما هو عليه هذا الشهرُ من قُدسيةٍ؛ نلاحظُ أنّ الكثيرينَ لا يتوانونَ عن الاستمرارِ في تُبادلِ رسائلَ لا تليقُ؛ ما يَكشفُ مدَى تَدَنّي مستوى الروحانيةِ لدَيهِم، وإحساسِهم بالشهرِ؛ ما يضيّعُ عليهم الفرصةَ في حصدِ الحسناتِ والأجرِ.
يقظةٌ وحذرٌ
يرى “محمود منصور” الأخصائي النفسي والاجتماعي: إنّ معظمَ الناسِ في هذا العصرِ يستخدمونَ مواقعَ التواصلِ الاجتماعي بصورةٍ كبيرةٍ، والجميعُ مَربوطٌ مع مجموعةٍ من المجموعاتِ عبرَ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي، إمّا على الهاتفِ أو الحاسوبِ المحمولِ، ويقتطعُ الإنسانُ الكثيرَ من وقتِه من أجلِ متابعةِ هذه المواقعِ، ورُبما البعضُ لا يكادُ يَجدُ وقتًا للقيامِ بالعلاقاتِ الاجتماعيةِ والإنسانية؛ بسببِ قضاءِ مُعظمِ وقتِه أمامَها ؛ ولهذا اختفَى التواصلُ الحقيقُ، والاهتمامُ بالجلساتِ التي تَجمعُ الأهلَ والأصدقاءَ، ليتواصلَ كلٌّ مع عالَمِه الخاصِّ من خلالِ شخصيتِه الإلكترونيةِ، التي بدأتْ تمسحُ ذاكَ الوجودَ الحقيقَ تدريجًا!
ويوضّحُ ضرورةَ الاعتدالِ في التعاملِ مع التكنولوجيا، بحيثُ نَحتفظُ بالنِّعمِ التي أغنتْ بها حياتَنا من دونِ أنْ نُعرّضَ أنفُسَنا للخطرِ، كمَن يكتبُ الرسائلَ، أو يَستخدمُ الهاتفَ وهو يقودُ سيارتَه، ولا أنْ نسمحَ لها أنْ تُبعِدَنا عن الأشخاصِ المُحيطينَ بنا، أو تَنالَ من علاقتِنا مع الأُسرةِ والأصدقاءِ، أو تؤثّرَ في تحقيقِ أهدافِنا، مؤكّدًا أنّ المَسألةَ لا تتعدّى أنْ تكونَ قرارًا يَتخِذُه الشخصُ بتغييرِ نمطِ حياتِه، وتنظيمِ وقتِه، وأنْ يكونَ شهرُ رمضان بدايةً لترشيدِ هذا الوقتِ، والعملِ على استغلالِه فيما يفيدُ، سواءٌ بالإكثارِ من العباداتِ أو التواصلِ مع الأصدقاءِ والأقرباءِ بالزياراتِ.
سلاحٌ ذو حدَّينِ
يتحدثُ “جابر العزايزة”، أخصائي المجتمعِ قائلًا :”لا أحدَ يُنكرُ الدورَ المُهِمَّ الذي تلعبُه مواقعُ التواصلِ الاجتماعي في التقريبِ بينَ الأهلِ والأصدقاءِ والاطمئنانِ على بعضِهم البعضِ؛ إذْ إنَّ وسائلَ التكنولوجيا عمومًا؛ جعلتْ من العالمِ قريةً صغيرةً. ولكنْ قد يُسيءُ البعضُ استخدامَ هذه المواقعِ؛ فتَنقلبُ مَنافعُها إلى أضرارٍ جسيمةٍ قد تُفسِدُ الصيامَ، وتوقِعُ المسلمَ في مَغبَّةِ الإثمِ؛ فهي سلاحٌ ذو حدَّينِ؛ إذْ توَظَّفُ في خدمةِ الدينِ والدعوةِ إلى اللهِ _تعالى_، فكُلُّ مَن ذكرَ نصيحةً أو آيةً قرآنيةً فلَه الأجرُ على هذا.
يتابعُ :”بعضُ الشبابِ والفتياتِ يُدمِنونَ الجلوسَ على مواقعِ التواصلِ الاجتماعي؛ فيُصبِحُ جلُّ اهتمامِهم مَنصبًا في هذا العالمِ الافتراضي، فلا يَحدثُ استغلالٌ جيّدٌ للوقتِ، وتتمُّ إضاعتُه فيما لا ينفعُهم، ويمرُّ عليهم الشهرُ المبارَكُ دونَ استغلالِه على أكملِ وجهٍ، فالتواصلُ الذي يكونُ له سَببٌ؛ مِثلَ السؤالِ عن مسألةٍ شرعيةٍ أو علميةٍ أو تربويةٍ؛ فهذا مطلوبٌ ومرغوبٌ، إذا كان مع مختصٍّ في الشؤونِ الدينيةِ، والمسائلِ الإسلاميةِ، وهذا حَسنٌ بين الرجالِ أو بين الرجالِ والنساءِ؛ لأنّ التواصلَ هنا يكونُ لِهدفٍ إيجابيٍّ وهادفٍ؛ وهذا لا غُبارَ عليه.