جَمِّلوا رمضانَ بِنَواياكم
في مدينةِ غزةَ ما يُسمَّى بمشروعِ توزيعِ الخبزِ اليومي؛ هناكَ جمعياتٌ خيريةٌ توَزّعُ الخبزَ كلَّ يومٍ للأُسرِ التي تقبعُ تحتَ خطِّ الفقرِ .
في طريقِ عملي توجدُ نقطةُ توزيعٍ لهذا الخبزِ الصباحي ، كبارًا وصغارًا ونساءً ورجالًا يأتونَ لهذه النقطةِ؛ يقدِّمونَ تلكَ البطاقاتِ التي مُنحتْ؛ فيَحصلونَ على ربطةِ الخبزِ التي تُغطِّي جزءًا من مُتطلّباتِهم اليوميةِ .
هذا المشهدُ كلَّ يومٍ كفيلٌ بأنْ يكونَ فيه درسٌ لِمَن يراهُ ينتابُ الرائي ألَمًا؛ حينَما يشاهدُ فتياتٍ شابّاتٍ قادماتٍ لذاتِ المرادِ؛ يُحضِرنَ معهنَّ أكياسًا أشبَهَ بالحقائبِ؛ حتى لا تظهرُ ربطةُ الخبزِ للمارّةِ في طريقِ عَودتِهنَّ.
وهناك كبارُ السنِّ المُلتَحفينَ بالمعاطفِ الثقيلةِ في يومٍ قارصٍ؛ يرتعشونَ بَردًا ومرضًا، وفي ذات البردِ وذاتِ اليومِ تَجدُ الطفلَ الصغيرَ الذي يلبسُ حذاءَه البلاستيكي المُقطَّعَ؛ ويميلُ على رفيقِه بعدما استرقَ رغيفًا من الكيسِ ليأكلَه؛ ويقولُ له “واللهِ إنه طازة”.
كنتُ أتساءلُ لماذا لا يصِلُ الخبزُ إلي أبوابِ هؤلاءِ العائلاتِ مباشرةً ! ولتُحفَظْ مياهُ وجوهِهم
سألتُ أحدَ الذين لهم باعٌ طويلٌ في العملِ الخيري ؛ فرَدَّ عليَّ ردًا مُقنِعًا؛ بأنَّ هذا الطردَ هو طردٌ يوميٌّ؛ تَوصيلُه لبيوتِ المُعوزينَ مُكلِفٌ؛ ومقابلَ تكلفةِ التوصيلِ سيَتمُّ تقليصُ عددِ المستفيدينَ؛ لأنَّ الجمعيةَ المانحةَ لدَيها مبلغٌ مُعيَّنٌ لهذا المشروعِ؛ كما أنها مَعنيةٌ بعددٍ أكبرَ من المُنتفِعينَ؛ فسقطَ استيائي ، فقد سَمَتْ نَواياهم .
فالنوايا هي أصلُ أعمالِنا وأفكارِنا،وما بالُ تلكَ النوايا في شهرِ رمضانَ، التي نتسابقُ فيها في العباداتِ وأفعالِ الخيرِ،
حتى المظاهر التي يعدها البعض انها لا لازمة لها مثل الزينة والفوانيس و بعض المستلزمات المطبخ والضيافةِ في رمضان َ.
لو وَضعتْ ربَّةُ البيتِ النيَّة فيها أنها لتجميلِ رمضانَ في عيونِ أُسرتِها وأطفالِها؛ فرمضانُ شهرٌ يستحقُّ منّا الترتيباتِ الماديةَ والروحيةَ ، وستكونُ نِيَّتُها خالصةً للهِ تعالى ، شبِّهوا شهرَ رمضانَ لأبنائكم؛ بأنه كَيوسُفَ الجميلِ وسطَ إخوانِه الأحدَ عشرَ .
فَهُو شهرٌ جميلٌ بكُلِّ تفاصيلِه؛ وهذا الجمالُ ينعكسُ على النفوسِ، وعلى الهَروَلةِ لعبادةِ اللهِ..
لابدَّ أنْ نُعلِّمَ أنفُسَنا وأبناءَنا بأنَّ العبادةَ لا تكونُ على سجادةِ صلاةٍ، أو التسابقِ في قراءةِ القرآنِ فحَسْب؛ وإنما أيضًا في جَبرِ خاطرٍ، وإسعادِ قلبٍ، ورسمِ بسمةٍ، وحُسنِ خُلقٍ؛ وهذا يكونُ مع القريبِ والبعيدِ ..
فالحبيبُ المُصطفى _صلى الله عليه وسلم_ يقولُ “إنَّ مِن أَحبِّكم إليَّ، وأقرَبِكم مِني مجلِسًا يومَ القيامةِ، أحاسِنَكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ، وأبعدَكم مِني يومَ القيامةِ، الثرثارونَ والمتشدِّقونَ “.
الرَّبتُ على قلوبِ المُعَوَزينَ، والمَرضى، والفاقدينَ من أعظمِ العباداتِ للهِ تعالَى.
هناكَ مَن يحتاجُ كلماتِ الحُبِّ، وهناكَ من يحتاجُ طبَقَ طعامٍ؛ أو مَلبَسًا لطفلِه، وغيرُهم يحتاجُ السؤالَ بمكالمةٍ هاتفيةٍ..
احتياجاتُ الناسِ مختلفةٌ؛ تَحَسَّسوها جيّدًا؛ ليس فُضولاً وإنما ليكونَ عطاؤكَ في مكانِه .
فجارُكَ الذي يَستجدي الجمعياتِ والشخصيات ِ؛ ولا يَجِدُ لأبنائه ما يُتِمُّوا عليه إفطارَهم ؛ سيَفرحُ بما بقيَ من أكلِكَ ؛ بشَرطِ أنْ تُرسِلَه بشكلٍ أنيقٍ، ولْنَتذَكَّرْ أنَّ الطبقَ سيقعُ في يدِ اللهِ؛ قبلَ أنْ يكونَ على سُفرة القفيرِ..
رمضانُ من أوسعِ الساحاتِ لاستجابةِ الدعواتِ ، فَلْنَضعْ ما في جَعبَتِنا من دعواتٍ وأُمنيَّاتٍ؛ ونُنادي اللهَ فيها؛ فلَنْ يُخيِّبَ رجاءَنا، وتَذَلُّلَنا على عَتباتِه ، ونتذكّرْ الآخَرينَ..
مَن نَعرِفُ حاجاتِه؛ نَذكُرُها كما يُحِبُّها، ومَن لم نَعلمْ لهم حاجةً؛ ندعو لهم بالمغفرةِ والتيسيرِ، فهناكَ من يقولُ لنا ” وَلَكَ بالمِثلِ “.
وهناكَ أناسٌ يَعزّونَ علينا؛ نُحبُّهم ويُحبونَنا ؛ غادَرونا وبقيَ مَقعدُهم فارغًا على سُفرتِنا؛ ولكنّهم باقونَ في قلوبِنا ، فَلْنُدِثِّرْهم بدَعواتِنا؛ فهي تنزلُ عليهم كالماءِ الباردِ في يومٍ حارٍّ، ويَتباهونَ بينَ جموعِ الأمواتِ بأنَّ أحبابَهم يَدعونَ لهم .
حارِبْ آفاتِ نَفسِكَ من “غِلٍّ، وغيرةٍ، وحسدٍ، وحقدٍ” وقاتِلْ نفسَكَ النرجسيةَ المُتسَلِّقة على مصالحِ الغيرِ ، ما أجملَ رمضانَ لتهذيبِ الذاتِ، وقتلِ الآفاتِ .
دعواتُ الإفطارِ التي نُكرِّرُها لرَحِمِنا والأقاربِ والأصدقاءِ؛ هي في عُرفِنا وعُرفِ شهرِنا عادةٌ.. ولكنْ جميلٌ أنْ نُعزِّزَها في طقوسِنا، إنها عادةٌ وعبادةٌ .
ما أجملَ شَهرَنا ! وما أكثرَ بَرَكتَه! ولا تكونُ بَركتُه إلا بِحُسنِ نَوايانا، ولا يكونُ جمالُه إلا بِجمالِ قلوبِنا ونفوسِنا .
رمضانُ كريمٌ عليكم ..