الدكتور يحيى السراج: نَجحْنا في تعزيزِ الصورةِ الإيجابيةِ عن بلديةِ غزة

حوار : ديانا المغربي
منذُ لحظاتِكَ الأُولى تستنجُ أنكَ أمامَ شخصٍ دقيقٍ ومُنظَّمٍ، فملَفاتُ عملِه وأوراقِه الموضوعةِ على مكتبِه في غايةِ العنايةِ والتنظيمِ؛ تُعطيكَ انطباعًا أنَّ لِكُلِّ ورقةٍ هنا أهميةً؛ فلا شيءَ مُهمَلٌ أو مؤجَّلٌ، وفي باحةِ مكتبِه تَبرُزُ أناقةُ المعمارِ، وحُبُّ الهندسةِ، والمَيلُ إلى استغلالِ المساحاتِ والإمكاناتِ؛ وهذا ما يَنعكِسُ على سياسيةِ عملِه بكُلِّ منصبٍ شَغلَهُ، في هدوئهِ تلمسُ شخصًا مُدرِكًا لِما يقولُ ويفعلُ، ويَعرفُ أينَ يقفُ؛ على الرغمِ من “الإرثِ “الكبيرِ من المشاكلِ والأزماتِ التي تَسلَّمَها مع منصبِه؛ هذا الإدراكُ جزءٌ من صناعةِ الحلولِ وإبداعِها.
ضيفُ “السعادة” في هذا العددِ؛ شخصٌ تشعرُ بِهَيبتِه تملأُ المكانَ؛ ليستْ هيبةَ الهيمنةِ أو النفوذِ؛ بل إنها هيبةُ الإنجازِ والبحثِ عن حلولٍ؛ إنه الدكتور “يحيى رشدي السرّاج” رئيسُ بلديةِ غزة.
الأولُ على القطاعِ
يقولُ لـ”السعادة”:” أنا من مواليدِ مدينةِ غزةَ، حيِّ الزيتونِ عامَ (1962)م، لعائلةٍ صغيرةٍ مكوّنةٍ من (6) أفرادٍ، والدي كان موَظَّفًا بسيطًا في الجمعيةِ التعاونيةِ، وأُمي رَبّةُ منزلٍ؛ إضافةً إلى عملِها في الخياطةِ لمساعدةِ والدي، درستُ المراحلَ الأساسيةَ في مدارسِ الإمامِ الشافعي والزيتونِ، وكنتُ من الطلبةِ المميَّزينَ جدًّا في تلكَ المرحلةِ، وقد أولاني المدرّسونَ معاملةً واهتمامًا خاصًّا؛ كان له الدورُ الكبيرُ في تشكيلِ وتحفيزِ شخصيتي؛ من أبرزِهم أستاذي الفاضلُ “أكرم فلفل”، ومديرُ مدرستي الشهيدُ الفاضلُ “أسعد الصفطاوي”.
ويضيفُ: المرحلةُ الثانويةُ كانت في مدرسةِ فلسطينَ؛ حيثُ حصلتُ على الترتيبِ الأولِ على مستوى قطاعِ غزةَ في الثانويةِ العامةِ، والحقيقةُ أنّ نجاحي هذا؛ لأنني كنتُ أتَّخِذُ من خالي الطبيبِ “محمود دولة” قدوةً عُليا للاحتذاءِ به وبنَهجِه؛ فهو شخصٌ عصاميٌّ مجتهدٌ ومخلصٌ في عملِه، وفى مراتٍ كثيرةٍ أشعرُ أنني وَرِثتُ منه هذه الصفاتِ التي مَكَّنَتْني مستقبَلاً لأكونَ ما أنا عليه اليومَ.
حصلتُ على مِنحةِ دراسةِ العلومِ في جامعةِ القاهرة؛ لكني رفضتُها للالتحاقِ بكليةِ العلومِ؛ وسَعيتُ بكُلِّ قوةٍ للحصولِ على منحةٍ لدراسةِ الهندسةِ في أيِّ جامعةٍ؛ لكنّ الظروفَ المختلفةَ حينَها حالتْ دونَ ذلكَ؛ ما أخَّرَني عن الدراسةِ فصلًا كاملًا، وفي بدايةِ عامِ (1980) انتقلتُ إلى مدينةِ “نابلس” شمالَ الضفةِ الغربيةِ؛ لإتمامِ درجةِ البكالوريوس من جامعةِ النجاحِ الوطنيةِ، التي فَتحتْ تَخصُّصَ الهندسةِ؛ فالتحقتُ فيها لأتخرّجَ منها أولَ دفعةٍ عامَ( 1985).
يقولُ لـ “السعادة”: في عامِ (1985) كانت أوجُهُ الحياةِ صعبةً للغايةِ، بطالةً مرتفعةً، الاحتلالُ يشنُّ هجماتٍ شرِسةً بينَ الفينةِ والأخرى على الجامعاتِ والمَعاهدِ، الأوضاعُ الداخليةُ متوَتّرةٌ..؛ لِذا عملتُ في مكاتبَ هندسيةٍ مختلفةٍ؛ وكنتُ أسعَى للحصولِ على منحةٍ لدراسةِ “الماجستير”؛ وبعدَ حوالي سنةٍ تقريبًا حصلتُ على منحةٍ من المجلسِ الثقافي البريطاني في القدسِ، في جامعةِ “ليدز” البريطانيةِ في تخطيطِ الموصلاتِ، وعُدتُ للعملِ في الجامعةِ الإسلاميةِ كمُحاضرٍ في كليةِ الهندسةِ؛ وتزوّجتُ في تلكَ الفترةِ من السيدةِ “هالة مصباح سكيك”، تحديدًا عامَ (1989)؛ وهى خريجةُ اتحادِ الكنائسِ في عامِ (1990)، ثُم شاءتْ الظروفُ أنْ نسافرَ إلى “بريطانيا”، وتحديدًا جامعةِ “برادفورد”، وفى هذه الفترةِ حصلتْ زوجتي على العديدِ من الدوراتِ المتخصّصةِ ، فيما حصلتُ على درجةِ الدكتوراه في إدارةِ المرورِ عامَ (1995).
قصصٌ ناجحةٌ
ويُتابعُ: “عُدتُ إلى أرضِ الوطنِ للعملِ في الجامعةِ الإسلاميةِ؛ وتَنقّلتُ في عدّةِ مناصبَ؛ منها رئيسُ قِسمِ الهندسةِ المَدنيةِ؛ ثُم عميدُ كليةِ الهندسةِ، عُضوٌ مساعدٌ لرئيسِ الجامعةِ الإسلاميةِ، ثُم عميدُ كليةِ العلومِ التطبيقيةِ، لدَيَّ سبعةُ أبناءٍ؛ أكبرُهم “حنين” خريجةُ تكنولوجية حيوية؛ تعملُ في مجالِ العملِ الحُرِّ في مجالِ الوسائطِ المتعددةِ ، ثُم ابني “رشدي”؛ وهو خرّيجُ تخطيطٍ تنموي ؛ إلّا أنه يعملُ في مجالِ الإعلامِ ؛ وقد حصلَ على منحةِ حاضنةِ الأعمالِ في الجامعةِ الإسلاميةِ؛ لتأسيسِ شركةٍ إعلاميةٍ مع صديقهِ الشهيدِ “ياسر مُرتجى” ، ثُم تأتي الدكتورة “ياسمين”؛ وهى خريجةُ كليةِ الطبِّ؛ تعملُ حاليًا في “البورد” الفلسطيني والعربي في المستشفى الإندونيسي والشفاءِ ، أمّا ابني الرابعُ فهو “محمود”؛ يَدرسُ في تخصُّصِ الهندسةِ المَدنيةِ؛ إضافةً إلى ثلاثةِ أبناءٍ؛ هم :(أمير، ومحمود، و مريم).
ويرى “السرّاج” في أبنائهِ نماذجَ لقِصصٍ ناجحةٍ؛ كلٌّ منهم يتميزُ بصفةٍ مختلفةٍ عن الآخَرِ؛ إلّا أنّ الجميعَ قد ورِثوا عنه المُثابَرةَ والجدَّ والاجتهادَ؛ إلّا أنّ ابنَه “أمير” هو الأكثرُ تَشَبُهًا بشخصيتِه، وطريقةِ تفكيرِه، واهتماماتِه، بالمعمارِ والديكورِ والعمارةِ الإسلاميةِ.
وعن مشوارِ العملِ الطويلِ يقولُ:” بدايةُ المشوارِ كان في الجامعةِ الإسلاميةِ؛ حيثُ كنتُ من أوائلِ الأشخاصِ الذين أَرسوا قواعدَ كليةِ الهندسةِ؛ ووَضعوا الأُسُسَ والمعاييرَ اللازمةَ لتطوّرِ الكليةِ على الشكلِ الذي نراهُ اليومَ، ثُم عُيِّنتُ بعدَها عميدًا لكليةِ العلومِ التطبيقيةِ؛ وشاءتْ الظروفُ حينَها أنْ يتمَّ اتّخاذُ قرارٍ بفصلِ الكليةِ بشكلٍ كاملٍ عن الجامعةِ؛ فصلًا مكانيًّا وإداريًّا ؛ وهنا كان التحدي الكبيرُ الذي وجدتُ نفسي أخوضُه؛ وهو كيفيةُ النهوضِ بالكليةِ بشكلٍ كاملٍ؛ بدءًا من اختيارِ المكانِ؛ حتى اختيارِ المساقاتِ داخلَ التخصصاتِ المختلفةِ، وكيفيةِ المحافظةِ على ثِقةِ الشارعِ العامِّ في الكليةِ ؛ منفصلًا عن الجامعةِ الإسلاميةِ .
جهود جبارة
ويستدركُ: كانت فترةً صعبةً للغايةِ؛ بذلتُ فيها جهودًا جبارةً جدًّا على كلِّ المستوياتِ؛ والحمد لله ؛ كلُّ هذه الجهودِ أَتتْ أُكُلَها، فلم يفصِلْنا إلّا سنواتٌ قليلةٌ لتصبحَ الكليةُ الجامعيةُ كيانًا منفصلاً وناجحًا؛ بل منافِسًا للجامعةِ الإسلاميةِ، ثُم بعدَ ذلكَ سعيتُ لأنْ تكونَ مميّزةً؛ حيثُ بدأنا العملَ في تخصُّصاتٍ تطبيقيةٍ عمليةٍ خادِمةٍ لكُلِّ شرائحِ المجتمعِ؛ وبالفعلُ ما أوجدتْهُ الكُليةُ الجامعيةُ من طرُقٍ تعليميةٍ؛ لم تستطِعْ توفيرَه أيُّ جامعةٍ أخرى؛ وهذا النجاحُ كان نتيجةَ تَجمُّعِ جهودِ العديدِ من الأشخاصِ المخلصينَ لهذهِ الأمانةِ.
أمّا عن رئاسةِ بلديةِ غزة فيقول:” عُرِضتْ عليَّ رئاسةُ بلديةِ غزة عام (2017)؛ وكنتُ في ذلكَ الوقتِ قد اتّجهتُ إلى العملِ الأكاديمي والبحثي؛ تارِكًا خلفي كُلَّ المهمّاتِ الإداريةِ المختلفةِ؛ وكنتُ أميلُ إلى الهدوءِ والبعدِ عن معتركاتِ العملِ، وقد رفضتُ.. إلّا أنّ العروضَ ظلّتْ مستمرّةً قرابةَ ثلاثِ سنواتٍ؛ وكنتُ في كلِّ مرّةٍ أسيرُ في شوارعِ المدينةِ؛ فأشعرُ بذنبٍ كبيرٍ تُجاهَ ما يَحدثُ؛ لاسيّما وأنّ المجلسَ القديمَ كان يطالب باستقالتِه والتخلّصِ من العبءِ الكبيرِ من المشاكلِ والأزماتِ التي خلّفتْها الأحداثُ السياسيةُ من الاحتلالِ، ثُم ما خلّفَه الانقسامُ الفلسطينيُّ من أزماتٍ كبيرةٍ.
ويتابعُ: ظلَّ شعورُ الذنبِ يلاحِقُني؛ حتى بِتُّ أشعرُ أنني أضُرُّ بالمصلحةِ العامةِ؛ وهذا ما دفَعني للموافقةِ المشروطةِ؛ وأنْ يكونَ تسلُّمي للمجلسِ البلدي مشروطًا بحاضنةٍ شعبيةٍ عبرَ الانتخاباتِ، وفعليًّا تمَّ التحضيرُ للانتخاباتِ؛ إلا أنّ الأمورَ توقّفتْ؛ لأنّ الانتخاباتِ بحاجةٍ إلى قرارٍ رئاسي.
إصلاحٌ إداري
وبعدَ مشاوراتٍ عدّة تمَّ الاقتراحُ أنْ يكونَ تسلُّمُ المنصبِ من قِبلِ “البيتِ المفتوحِ”؛ وهو هيئةٌ كبيرةٌ تضمُّ شخصياتٍ متعدّدةً من أهالي غزةَ من (الوجهاءِ، والمخاتير،ِ والأطباءِ، والأكاديميينَ، والتجارِ) وكلِّ أصنافِ المِهنِ في المجتمعِ الفلسطيني، وكنتُ حينَها أدركُ تمامًا؛ أنّ لدَيَّ إرثًا من المشاكلِ والأزماتِ والديونِ؛ وأنني فعليًّا أستعدُّ لمعركةٍ..
ومنذُ اليومِ الأولِ لتسلُّمي المنصبِ مع المجلسِ البلدي _الذي تمَّ تعيينُه معي_ قرَّرنا أنْ نعملَ بأربعةِ مَحاورَ؛ وهي ترتيبُ البيتِ الداخلي بما يَشملُ تطويرَ الهيكليةِ الإداريةِ واعتمادَها وتنفيذَها على مراحلَ، وتسهيلَ الخدماتِ، وتطويرَ الإجراءاتِ، وتفعيلَ مراكزِ البلديةِ، وحُسنَ استثمارِ الممتلكاتِ الخاصةِ بها.
كنتُ أدرِكُ من البدايةِ أنّ علينا كمجلسٍ بلديٍّ؛ أنْ نُولِي المجتمعَ المَحليَّ أهميةً؛ وذلكَ من خلالِ تعزيزِ الصورةِ الإيجابيةِ عبرَ تحسينِ الخدماتِ؛ وإبرازِها، وتعزيزِ حِرصِ المواطنِ على الإنجازاتِ والمشاريعِ، ومَنحِه شعورَ المُلكيةِ للمشروعاتِ، والطرُقِ، وعدمِ إلحاقِ الضرَرِ فيها.
حِكمةٌ وعقلانيةٌ
ويضيفُ:” اتّخذْنا من الانفتاحِ على مؤسساتِ المجتمعِ المدَني المحليةِ والدوليةِ؛ ساهمَ في تعديلِ الصورةِ الإيجابيةِ، حين كَرَّسْنا جهودًا جبارةً للسيطرةِ على الأزمةِ الماليةِ؛ عِلمًا أنّ الأزمةَ كانت تطالُ كُلَّ مؤسَّسةٍ في المجتمعِ آنَذاكَ، فأَطلَقْنا العديدَ من الحملاتِ المشجّعةَ، والتسهيلاتِ الماليةَ من ضِمِنها توحيدُ أدواتِ التحصيلِ، التعاقدُ مع شركاتِ التحصيلِ المتخصّصةِ، دراسةُ جميعِ الديونِ ومعالجتُها.
وعن أبرزِ الإنجازاتِ يقولُ السرّاج لـ “السعادة”: الشروعُ في خُطةِ إصلاحٍ إداريٍّ وماليٍّ لترتيبِ البيتِ الداخلي؛ استَطعْنا من خلالِها التخفيفَ من التضخُمِ الوظيفي من خلالِ التقاعدِ المبكّرِ، دفعَ جزءٍ من مستحقاتِ الموظفينَ، اتَّبعْنا سياسيةَ التدويرِ الإداري ، تعيينُ كفاءاتٍ على بندِ العقودِ ، عزّزْنا من استخدامِ التكنولوجيا في متابعةِ وتشغيلِ مرافقِ البلديةِ؛ بتفعيلِ مراكزِ المراقبةِ والتحكّمِ عن بُعدٍ، تعزيزُ الإفصاحِ وسياسةُ مشاركةِ المعلوماتِ والبابِ المفتوحِ ؛ علاوةً على السيطرةِ على ديونِ المجلسِ البلدي؛ جزءٌ كبيرٌ منها لصالحِ هيئةِ التقاعدِ الفلسطينيةِ؛ بمبلغٍ يصلُ إلى (300) مليونِ شيكل ، استطعْنا رفعَ قيمةِ التحصيلِ من المواطنينَ من (9%) إلى ( 24% )؛على الرغمِ من أن عامَينِ من هذه الإصلاحاتِ كان يخضعُ لتدابيرِ الإجراءاتِ الوقائيةِ لأزمةِ “فايروس كورونا” والتي أرختْ بظلالِها على كلِّ أشكالِ الحياة .
وينوّهُ “السراج” أنه يخدمُ قرابةَ مليونٍ غزيٍّ؛ يستفيدُ من خدماتِ المجلسِ البلدي؛ وبالتالي هناكَ خَلَلٌ أو عدمُ دِقةٍ في المعلوماتِ تُشكّلُ زَوبعةً بينَ الفينةِ والأخرى، والحقيقةُ أننا ندركُ تمامًا أنّ غيابَ الثقةِ سنواتٍ طويلةً هم جزءٌ من الزوبعاتِ التي تَحدثُ بينَ الفينةِ والأخرى ؛ لكننا نحاولُ أنْ نتعاملَ معَ هذه الأزماتِ بِحَكمةٍ وعقلانيةٍ، وإظهارٍ للمعلوماتِ والأهدافِ عبرَ حاضنةِ الإعلامِ، وعبرَ المبادراتِ والأنشطةِ الثقافيةِ والمجتمعيةِ التي نُطلِقُها باستمرارٍ بهدفِ التقرُّبِ من المواطنِ، وتعزيزِ ثِقَتِه في المجلسِ البَلدي وإجراءاتِه وقراراتِه؛ ليكونَ المواطنُ شريكًا وحاميًا للقرارِ الخادمِ للمجتمعِ.