
تحقيق : السعادة
“وادي الجوز” حَيٌّ من الأحياءِ المَقدسيةِ؛ وهو في الجانبِ الشرقيّ لمدينةِ القدسِ؛ تتكونُ المنطقةُ من عددٍ من الأحياءِ الثانويةِ؛ من الشرقِ حَيُّ “وادي الجوز” الذي يقعُ في المسارِ الشمالي لوادي النارِ(وادي كدرون)من الشَّمالِ- الغربِي حيُّ الحسيني (لاحقًا سُميَ بالحيِّ الأمريكي)، من الجنوبِ- الغربي حيُّ المَسعودية (المصرارة الشرقية)، وفي الوسطِ حيُّ بابِ الساهرةِ (الحيُّ الذي يقعُ خارجَ بابِ الساهرةِ). ويَحُدُّ الحيَّ من الشرقِ الصوانةُ وجبلُ الزيتونِ، ومن الشِّمالِ والشمالِ الغربي الشيخُ جرّاح؛ ويعدُّ الآنَ من الأحياءِ المُهِمة في القدسِ الشرقيةِ.
مناطقُ خضراءُ
سُمِّي “وادي الجوزِ” بهذا الاسمِ؛ نسبةً لشجرِ الجوزِ الذي يَكثُر فيه، وتشتهرُ به حتى الزمنِ الحالي. “كان حيُّ “وادي الجوز” حتى نهايةِ القرنِ التاسعَ عشرَ أراضيَ أميريةً؛ وهي أراضٍ تابعةٌ للحكومةِ العثمانيةِ؛ يقومُ أفرادٌ بزراعتِها.
نظرًا لِقُربِها من البلدةِ القديمةِ؛ ولامتلاكِها مساحاتٍ مفتوحةً واسعةً؛ التجأَ إلى “وادي الجوز” العديدُ من اللاجئينَ والمهاجرينَ الريفيّينَ منذُ نكبةِ عامِ (1948). وقد تمَّ احتلالُ “وادي الجوز” مع الجزءِ الشرقي للمدينةِ؛ الذي احتُلَّ عامَ (1967)؛ ثُم ضُمّ لاحقًا لنفوذِ بلديةِ الاحتلالِ في القدسِ؛ التي قامت بتصنيفِ المنطقةِ على أنها “مناطقُ خضراءُ”.
شهِدَ “وادي الجوز” انتعاشًا اقتصاديًا في بدايةِ الثمانينياتِ؛ عندما بدأَ عددٌ من أصحابِ الكراجاتِ، ومحلاتِ تصليحِ السياراتِ؛ بفتحِ محلاتِهم فيها؛ إذْ جَذَبتْهم معدّلاتُ الإيجارِ المنخفضةُ نسبيًا.
ما زالت بلديةُ الاحتلالِ الإسرائيليّ؛ تعملُ على وضْعِ العديدِ من المخطَّطاتِ من أجلِ تهويدِ القرى والأحياءِ الفلسطينيةِ؛ بهدفِ توسيعِ الاستعمارِ والاستيطانِ؛ حيثُ تمَّ توزيعُ إخطاراتٍ لإخلاءِ وهدمِ (200) مُنشأةٍ تجاريةٍ وصناعيةٍ بالمنطقةِ الصناعيةِ في حيِّ “وادي الجوز” بالقدسِ المحتلّةِ، حتى نهايةِ العامِ الجاري.
قراراتٌ بالإخلاءِ
لا شيءَ يبدو غريبًا في المنطقةِ الصناعيةِ بحيِّ “وادي الجوز” في القدسِ، فعشراتُ المَركباتِ تَركنُ أمامَ المرائبِ بهدفِ تصليحِها، وأصحابُ الاختصاصِ يفحصونَ ويتنقلونَ بينَ الزبائنِ لتلبيةِ طلباتِهم، وحدَها الأوراقُ البيضاءُ التي ثبَّتَتْها طواقمُ بلديةِ الاحتلالِ تُنَغِصُ سيرَ العملِ، وتدفعُ بأصحابِ المرائبِ للتهامُسِ تارةً؛ والانفعالِ والتعبيرِ عن غضبِهم بصوتٍ مرتفعٍ تارةً أخرى.
وزّعتْ بلديةُ الاحتلالِ عشراتِ أوامرِ الإخلاءِ التي حملتْ عنوانَ “وقْفُ الاستخدامِ الاستثنائيّ”، بِسببِ أنّ أصحابَ “الكراجاتِ” يستخدمونَ المَحالَّ بشكلٍ استثنائيٍّ ومُخالِفٍ منذُ عقودٍ. والآنَ تعودُ وتطلُّ عليهم بإخطاراتٍ تُنذِرُهم بهدمِ محالِّهم، بحُجةِ بنائها دونَ ترخيصٍ، بعدَ يأسِها من إمكانيةِ أنْ يُخليَ المَقدسيونَ مرائبَهم طوعًا.
المَقدسي جريس مريبع (87 عامًا)؛ يتنقلُ بينَ آلاتِ مِرآبِه الأثريةِ؛ رافضًا اقتلاعَه من المكانِ الذي يعملُ فيه منذُ عامِ (1964) في مجالِ خراطةِ الحديدِ لقِطعِ السياراتِ.
يقولُ:”الأخبارُ تتَواردُ منذُ سنواتٍ عن محاولاتِ قتلِ المنطقةِ الصناعيةِ؛ وتفريغِها من الكراجاتِ، مؤكّدًا أنه لا يمكنُ لأصحابِ المِهنِ أنْ يتفرّقوا في أماكنَ مختلفةٍ؛ لأنَّ كلَّ شخصٍ منهم يُكمِّلُ الآخَرَ؛ إذْ تمرُّ المَركباتُ بعِدّةِ مراحلَ خلالَ صيانتِها؛ وتحتاجُ لأكثرَ من تَخصُّص.
يضيفُ:”كيف يُمكِنُ أنْ أرضخَ لتهديداتِ البلديةِ؛ وأنا أعملُ في هذا المكانِ قبلَ وجودِها! منذُ الحُكمِ الأردني للمدينةِ ونحن نَملكُ تراخيصَ لمِهنتِنا؛ ونُزاوِلُها بشكلٍ روتينيّ، لكنْ منذُ المُصادقةِ على المشاريعِ الاستيطانيةِ في منطقةِ “وادي الجوز”؛ نتعرّضُ للتضييقِ ومحاولاتِ الطردِ بشكلٍ طَوعيٍّ، والآنَ بشكلٍ قَسرِي”.
مَقدسيونَ يشتكونَ
أمّا المَقدسي “أبو حسين العواودة”؛ ظهرَ عليه الغضبُ؛ يتنقلُ بين مكتبِه والمرائبِ المحيطةِ به؛ ويتناقشُ مع الآخَرينَ حولَ المساحاتِ القانونيةِ التي يُمكِنُهم التحرّكُ فيها، يقولُ:” استأجرَ والدي المِرآبَ عامَ (1958)؛ وبدأَ العملَ ميكانيكيًا للسياراتِ، بينَما العائلةُ تمتلكُ رُخَصَ مِهَنٍ من المملكةِ الأردنيةِ، ولاحقًا من بلديةِ الاحتلالِ التي تشهدُ دوائرُها بالتزامِهم بدفعِ كافةِ الضرائبِ المترتبةِ على منشآتِهم التجاريةِ، وفي الوقتِ ذاتِه تسعَى جاهدةً لإخلائِهم الآنَ؛ رغمَ ما يمتلكونَ من وثائق!
يرفضُ المَقدسي بشكلٍ قاطعٍ الانتقالَ للعملِ في منطقةٍ صناعيةٍ أخرى، ويَجزمُ أنّ الانتقالَ سيَحولُ دونَ وصولِ الزبائنِ لهم؛ هذا ما أثنَى عليه زبونُه القديمُ “أحمد أبو هيكل”، الذي قالَ “للجزيرةِ نت”؛ إنه يتردّدُ على المنطقةِ الصناعيةِ منذُ اشترى أولَ سيارةٍ له عامَ (1970.(
ويضيفُ :”جميعُ المَقدسيينَ ألِفُوا المكانَ وأصحابَ المِهَنِ فيه؛ وباتَ حيُّ “وادي الجوز” عنوانًا لنا لتصليحِ المَركباتِ، ولا نفكّرُ بالذهابِ للمناطقِ الصناعيةِ الأخرى غربيَّ المدينةِ بسببِ بُعدِ المسافةِ” .
وتعتزمُ بلديةُ الاحتلالُ في القدسِ تنفيذَ مشروعَينِ ضخمَينِ على أنقاضِ نحوِ (180) مُنشأةً للمقدسيينَ بالمنطقةِ الصناعيةِ في “وادي الجوز”؛ الأولُ سيكونُ امتدادًا لمشروعِ “مَركزُ مدينةِ القدسِ الشرقيةِ”؛ والآخَرُ “وادي السيليكون”.
وتبلغُ مساحةُ الأراضي التي من المُفترَضِ أنْ يقامَ عليها مشروعُ “وادي السيليكون” نحوَ ( 30) دونمًا، أمّا الأرضُ التي تعتزمُ البلديةُ ضمَّها إلى مشروعِ “مَركزُ مدينةِ القدسِ الشرقيةِ”، فتبلغُ مساحتُها (5) دونماتٍ، وتَتبَعُ لوَقْفِ عائلةِ الخطيبِ، ومن المفترَضِ أنْ تُبنَى عليها مَبانٍ سكنيةٌ؛ تقعُ أسفلَها مصالحُ تجاريةٌ تتجاهلُ الاستخدامَ الحالي للمكانِ بشكلٍ كامل.
إخطاراتٌ ظالمةٌ
المحامي “مهند جبارة”، الذي يتابعُ هذا الملفَ، إنه تَواصلَ مع قسمِ “التفتيشِ على البناءِ” في البلديةِ، وعلِمَ أنه تمَّ توزيعُ (50) إخطارًا في المنطقةِ الصناعيةِ.
وتَطلبُ البلديةُ من أصحابِ المرائبِ المَثولَ أمامَ المفتشِ المسؤولِ فورًا، ورجّحَ “جبارة” أنْ يَتِمَّ إصدارُ أوامرَ هدمٍ ضدَّ المباني التي تدَّعي البلديةُ إنشاءَها دونَ ترخيصٍ خلالَ أسبوعَينِ.
المفاجئُ في هذه الإخطاراتِ -وفقًا للمحامي- أنّ البلديةَ تَنتقِلُ بتوزيعِها إلى المرحلةِ التنفيذيةِ؛ بعدَ أنْ اكتفتْ قبلَ عامٍ ونصفِ العامِ؛ بإعلامِ المَقدسيينَ في المنطقةِ بتفاصيلِ المشروعِ، وبمحاولةِ إخلائهم طَوعًا.
ويَصِفُ “جبارة” الخطوةَ الأخيرةَ بالخطيرةِ للغايةِ؛ لأنّ السلطاتِ الإسرائيليةَ انتقلتْ بها من مرحلةِ جَسِّ النبضِ؛ إلى التضييقِ على المَقدسيينَ بشكلٍ عمليّ؛ باللجوءِ لإجراءِ هدمِ البناياتِ.
ويضيفُ: إنه يملكُ إمكاناتِ دفاعٍ كبيرةً عن المتضرِّرينَ؛ عبرَ تقديمِ طعونٍ ترتكزُ على “قانون أساس”؛ يندرِجُ تحتَ بندِ حريةِ ممارسةِ العملِ؛ لأنّ البلديةَ _على مدَى أكثرَ من ” 50″ عامًا_ سمحتْ لهؤلاءِ بالعملِ؛ وغضّتْ النظرَ عنهم؛ وأعطتْهم الفرصةَ لفَتحِ المصالحِ وتطويرِها؛ لكنّها الآنَ تريدُ تفريغَ المنطقةِ منهم؛ ليس على أساسِ قانونِ التنظيمِ والبناءِ؛ بل لتنفيذِ أجِندةٍ مُعيّنةٍ بتحويلِ المنطقةِ من صناعيةٍ للفلسطينيينَ إلى منطقةٍ تكنولوجيةٍ متطورةٍ.
تهدفُ المخططاتُ الإسرائيليةُ من وراءِ إخطاراتِ الهدمِ و الإخلاءِ؛ ضربَ الاقتصادِ الفلسطيني، ومحاربةَ التجارِ بهدفِ السيطرةِ على المنطقةِ الصناعيةِ الفلسطينيةِ، ودفعَ المقدسيينَ للتوَجّهِ للمناطقِ الصناعيةِ الإسرائيلية .
مناطقُ صناعيةٌ بامتياز
في حديثٍ مع رئيسِ الغرفةِ التجاريةِ الصناعيةِ العربيةِ في القدسِ “كمال عبيدات” : إنّ بلديةَ الاحتلالِ _بمُوافقةِ ما يسمَّى “لجنةُ التخطيطِ والبناءِ الإسرائيليةُ_، أصدرتْ قرارًا نهائيًا بهَدمِ وإخلاءِ نحوِ (200) مُنشأةٍ خاصةٍ لتصليحِ المركباتِ، وتجاريةٍ ومَطاعمَ، في منطقةٍ من أكثرِ المناطقِ حيويةً في القدسِ.
ويضيفُ عبيدات :”إنّ هذا القرارَ العنصريَّ؛ جاءَ للسيطرةِ على المنطقةِ الصناعيةِ الوحيدةِ في القدسِ الخاصةِ بالفلسطينيينَ، وفي المقابلِ الإبقاءِ على مناطقَ صناعيةٍ إسرائيليةٍ أخرى؛ بهدفِ تغييرِ ملامحِ وهويةِ المدينةِ المقدّسةِ، وتهويدِها، مطالبًا بالوقوفِ إلى جانبِ المقدسيينَ، وتعزيزِ صمودِهم في وجهِ الهجمةِ الشرسةِ للاحتلالِ.
يوضّحُ رئيسُ الغرفةِ التجاريةِ: إنّ هذا القرارَ يهدفُ للسيطرةِ الإسرائيليةِ على المنطقةِ الصناعيةِ الوحيدةِ الخاصةِ بالفلسطينيينَ، وهي منشآتٌ لتصليحِ المَركباتِ، وتجاريةٌ ومَطاعمُ، في وقتٍ تُصَعّدُ فيه سلطاتُ الاحتلالِ من بناءِ العديدِ من المناطقِ الصناعيةِ للمستوطنينَ والإسرائيليينَ، في إطارِ مخطَّطٍ استعماريّ تهويديّ قديمٍ مُتجدِّدٍ؛ يهدفُ إلى تغييرِ معالمِ المدينةِ المقدسةِ وهويتِها، وإلى فصلِها بالكاملِ عن محيطِها الفلسطيني.
و يواجِهُ حيّ “وادي الجوز” عدّةَ تحدياتٍ شبيهةٍ بتلكَ التي تواجِهُها سائرُ الأحياءِ الفلسطينيّةِ في القدسِ، ومن أبرزِ تلكَ التحدياتِ الخُطّةُ الهيكليةُ الإسرائيليةُ للقدسِ، التي تمّتْ المصادَقةُ عليها من قِبلِ لجنةِ البناءِ والتخطيطِ في بلديةِ الاحتلالِ .
ويقولُ :”تهدفُ هذه الخُطةُ إلى توسيعِ الحضورِ الاستيطاني في القدسِ المحتلّةِ والتضييقِ على الوجودِ الفلسطينيّ فيها. من ضِمنِ بنودِ الخطّةِ القضاءُ على سوقِ الخضارِ الموجودِ في “وادي الجوز”؛ ومصادرةُ بعضِ الأراضي، وبناءُ فندقٍ على أنقاضِ الممتلكاتِ الفلسطينيةِ.
يتابعُ :”على الرغمِ من أنّ حيّ “وادي الجوز”؛ لا يقعُ مباشرةً بالقربِ من جدارِ الضمِّ والتوسُّع؛ إلّا أنه متأثّرٌ بطبيعةِ الحالِ ببناءَ هذا الجدارِ؛ وما نَجمَ عنه من تضييقٍ وخَنقٍ لمدينةِ القدسِ، و أدّى بناءُ الجدارِ إلى حرمانِ الأسواقِ في مدينةِ القدسِ من زبائنِها من أهالي الضفةِ الغربيةِ؛ ما قلَّلَ من نسبةِ الأرباحِ؛ وساهمَ في تدهورِ الأوضاعِ الاقتصاديةِ لتلكَ الأسواقِ.
ويبيّنُ: إنّ اندفاعَ بعضِ التجارِ المقدسيّينَ إلى الانتقالِ بمحلاتِهم التجاريةِ إلى المناطقِ الصّناعيةِ داخلَ الضفةِ الغربيةِ؛ حيثُ يُمكِنُهم تخفيضُ تكاليفِ التشغيلِ؛ وبالتالي عرْضُ بضائعَ بأسعارٍ أقلَّ، وقد أثّرَ ذلك بشكلٍ سلبيٍّ على الوضعِ الاقتصادي في “وادي الجوز”، وفي مدينةِ القدسِ بشكلٍ عام.
عملياتُ الهدمِ وإخطاراتُ الهدمِ التي نفّذتْها سلطاتُ الاحتلالِ؛ كانت موَزّعةً في مناطقِ الضفةِ المحتلةِ، والداخلِ الفلسطينيّ ، وفي جانبِ الاستيطانِ، والحديثِ عن قرارِ الضمِّ الذي يحاولُ الاحتلالُ فرضَه بالقوةِ على الفلسطينيينَ، فإنّ انتهاكاتِ الاحتلالِ ومستوطنِيهِ بحقِّ الفلسطينيينَ وممتلكاتِهم في تصاعُدٍ واضحٍ وخطيرٍ.