Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
تقارير

مبادرةٌ لتوثيقِ التراثِ الفلسطينيّ بالاستعانةِ بذاكرةِ المُعَمِّراتِ

 

تقرير : السعادة

عكفتْ “عبلة أبو عيسى” منذُ سنواتِ الشبابِ الأولى؛ على حِفظِ الأغاني التراثيةِ عن جدّاتِها وعمّاتِها ووالدتِها؛ والتي كانوا ينشدونَها في ليالي الأفراحِ الجميلةِ، فعلى الرغمِ من انتشارِ “الكاسيت” آنَذاكَ؛ إلّا أنها كانت تميلُ إلى هذه الأغنياتِ الجميلةِ؛ وتحاولُ فَهمَ كلماتِها التي كانت عادةً مرتبطةً بواقعِ الحياةِ الفلسطينيةِ قبلَ النكبةِ.

ولم تكنْ تدركُ حينَها “أبو عيسى” أنها ستكونُ يومَها جزءًا من مهمّةٍ وطنيةٍ تأخذُ على عاتقِها تسجيلَ وتوثيقَ جزءٍ من التراثِ الفلسطينيّ؛ ما شكّلَ لها سعادةً بالغةً؛ جمعتْ بين حُبِّها لهذا اللونِ التراثي؛ وفَخرِها بأنها استطاعتْ أنْ توَثّقَ هذا الفنَّ وحمايتَه من الاندثارِ عبرَ ألبومٍ يجمعُ أغاني التراثِ.

مُعايِشةً للحياةِ

وتشيرُ “عبلة” إلى أنها أسهمتْ في الألبومِ بتوثيقِ ما حَفِظتْهُ من أُغنياتٍ؛ رصدتْ كلماتُها قصصَ الحياةِ التراثيةِ القديمةِ في قطاعِ غزةَ؛ من أجلِ نقلِها إلى الأجيالِ الحاليةِ والمُقبِلةِ؛ موَضِّحةً أنّ كافةَ الأغاني التراثيةِ هي مُعايَشةٌ ميدانيةٌ لواقعِ الحياةِ آنَذاكَ؛ وفيها وصْفٌ دقيقٌ للمشاعرِ والوجوهِ والمناطقِ، والكثيرِ من تفاصيلِ الفلسطينيينَ آنَذاك.

وتحكي أبو عيسى لـ ” السعادة”: كيف كانت طفلةً؛ تُمسِكُ  بِثَوبِ أُمِّها؛ لتسمعَ هذه الأغاني من الجدّاتِ؛ دونَ أنْ تفهمَ غالبيةَ الكلماتِ؛ لكنها كانت تَطرَبُ للألحانِ، والطريقةِ المُبهِجةِ التي يُؤَدُّونَ فيها، وكيف في كلِّ مرّةٍ كانت تزدادُ معرفتُها بالمعاني وبِعددِ الأغاني.

وكيف كَبرتْ وهي تُحبُّ هذا اللونَ من الأغاني؛ واشتهرتْ به في عائلتِها ومحيطِها الاجتماعي؛ حيثُ تغنِّي هذا التراثَ في كثيرٍ من المناسباتِ النسائيةِ؛ وكيف تلتفُّ حولَها النساءُ يُرَدِّدنَ ما تُنشدُه.

الألبومُ الغنائي حصادُ مبادرةٍ شبابيةٍ؛ استمرّتْ لأكثرَ من (3) أعوامٍ في غزةَ؛ استهدفَ إحياءَ التراثِ الثقافي؛ في سابقةٍ تُعَدُّ الأُولى من نوعِها في الأراضي الفلسطينيةِ؛ ويتضمنَ الألبومُ الذي تمَّ إطلاقُه حديثًا (8) أُغنياتٍ تراثيةٍ؛ تُحاكي قصصًا مُستَوحاةً من الحياةِ الفلسطينيةِ منذُ مطلعِ القرنِ الماضي، في مَسعًى يستهدفُ حِفظَ التراثِ الشعبيّ الفلسطينيّ القديمِ.

وأشرفَ على إنتاجِ الألبومِ_ الذي يَحملُ عنوانَ (دابا يا قلبي)_ جمعيةُ (نوَى) للثقافةِ والفنونِ؛ بفضلِ تنسيقٍ مع مؤسَّساتٍ فلسطينيةٍ وأوروبيةٍ؛ إذْ يحتوي الألبومُ على أغانٍ تعكسُ تراثَ وعاداتِ وتقاليدَ قطاعِ غزةَ؛ بما يَحملُ إرثُه التاريخيُّ من تنوُّعٍ ثقافيٍّ ومجتمعيّ؛ تأثَّرَ بمرورِ العديدِ من الحضاراتِ على مرَّ الزمنِ.

التاريخُ الشفهي

وخرجَ الألبومُ إلى النورِ؛ بعدَ جهدٍ شبابيٍّ استمرَّ (3) أعوامِ؛ لجَمعِ وتوثيقِ كلماتِ الأغاني من كبارِ النساءِ المُعمّراتِ في مناطقَ متفرّقةٍ من قطاعِ غزةَ؛ الذي يقطنُه زُهاءَ مليونَي نسمةٍ.

من جانبِها، تقولُ “أماني النجار”؛ عضوُ فريقِ المبادرةِ الشبابيةِ:” إنَّ الفريقَ المكوّنَ من (8) شُبّانٍ وشابّاتٍ؛ عمِلَ بشكلٍ مكثّفٍ على تَتَبُّعِ التاريخِ الشفهي والتراثي للنساءِ المُعمّراتِ؛ لجَمعِ وتوثيقِ تراثِ الأغاني الشعبيةِ؛ موَضّحةً أنهنَّ تَنقلْنَ في أحياءِ وأزِقّةِ مناطقَ متفرّقةٍ من قطاعِ غزةَ، ولاسيّما مدينةُ “دير البلح”؛ للاستماعِ إلى القصصِ والأغاني التراثيةِ؛ وتوثيقِها في ألبومٍ فنيٍّ.

وتشيرُ إلى أنّ الألبومَ تَضمّنَ موضوعاتٍ مختلفةً عبرَ كلماتِ الأغاني التي شمِلَها؛ “إذْ كُنا نتجمّعُ ونُقيمُ حفلاتٍ صغيرةَ؛ حتى نَكسِرَ الجمودَ، ونُمَهدَ لبدءِ السيداتِ كبارِ السنِّ في الغناءِ من التراثِ القديمِ، ومن ثَم توثيقُه”، وقد حَظيَ مشروعُ جمعِ وتسجيلِ كلماتِ الألبومِ التراثيّ بدَعمٍ ماليٍّ من مؤسّسةِ (دروسوس) السويسريةِ، والوكالةِ السويسريةِ للتنميةِ والتعاونِ.

وتضيفُ: يضُمُّ الألبومُ أغانيَ منها (ما بَريدو) و(نهورة) و(صف البراري)؛ تُغنَّى في مناسبةِ ليلةِ حنّةِ العروسِ، ويتمُ فيها الاحتفاءُ بالعروسِ التي تزيّنُ كفَّيها بالحنّاءِ؛ بحضورِ النساءِ من الأهلِ والأقرباءِ والأصدقاءِ، كما تتميزُ الأغنيةُ التراثيةُ بطقوسٍ خاصةٍ؛ بحيثُ تصطفُّ النساءُ في صفّينِ متقابلَينِ مُناصَفةً؛ وتَتشابكُ الأيدي على الأكتافِ، ويتبادلنَ الأدوارَ بغناءِ الأبياتِ بالتتابُعِ؛ لتقومَ النساءُ في الصفِّ الثاني المُقابلِ بالردِّ وبترديدِ الأبياتِ، ويِقُمنَ بأدائها طوالَ الليلِ حتى الفجرِ؛ لكثرةِ الأبياتِ المُغناةِ ، وعادةً ما يتذكّرُ كبارُ السنِّ في قطاعِ غزةَ أغانيهم التراثيةَ بكثيرٍ من السعادةِ وطاقةِ الفرحِ؛ كَونَها تعودُ بهم لعقودٍ طويلةٍ إلى الوراءِ من أعمارِهم.

حِفظٌ وتوثيقٌ

وتَلفتُ “ريم أبو جبر”_ مديرةُ جمعيةِ نوَى للثقافةِ والفنونِ_ إلى أنّ معظمَ النساءِ اللواتي تمَّ لِقاؤهنَّ لحِفظِ وتوثيقِ الأغاني التراثيةِ تَوَفَّينَ لاحقًا؛ ما يؤكّدُ أهميةَ المبادرةِ الشعبيةِ في إنقاذِ تلكَ الأغاني في آخِرِ لحظةٍ.

وتُوَضّحُ “ريم” أنّ ألبومَ “دابا يا قلبي” يُعَدُّ العملَ الفنيَّ الأولَ على صعيدِ التراثِ الشعبيّ القديمِ في الأراضي الفلسطينيةِ، وحِفظِ الأغاني ذاتِ الارتباطِ بعقودٍ ماضيةٍ؛ بما لها من طابعٍ مميَّزٍ من السحرِ والسعادةِ، لافتةً إلى أنّ الكثيرَ من كلماتِ الأغاني التراثيةِ القديمةِ احتاجتْ إلى إجراءِ أبحاثٍ عديدةٍ للوصولِ إلى جذورِها ومَعانيها، ومن ثَم جَمعُها وترتيبُ سياقِها؛ ولاسيّما أن الكثيرَ منها مرتبطٌ بمدلولاتٍ تاريخيةٍ؛ وبعضَها يتجاوزُ عمرُها الـ (100) عامٍ؛ وتعودُ إلى فترةِ العهدِ العثماني في فلسطينَ.

وتُنَبِّهُ “أبو جبر” إلى أنه عندما تمَّ إصدارُ ألبومِ الأغاني؛ فإنه حَظيَ بتَجاوُبِ الكثيرِ من النساءِ المُعمّراتِ في قطاعِ غزةَ؛ واللاتي تَجاوَبْنَ معه بدلائلَ عمليةٍ عبْرَ مُقتنياتٍ قديمةٍ وَرِثْنَها من أمهاتِهنَّ وجدّاتِهنَّ.

وتُعَدُّ الأغنيةُ الشعبيةُ أحدَ عناصرِ التراثِ الثقافيّ غيرِ المادي، الذي يوَثّقُ القصصَ والعاداتِ المُرتبطةَ بكُلِّ مناحي الحياةِ في أوقاتِ الفرحِ والحجِّ، والاحتفاءِ بالمولودِ، وجميعِ المناسباتِ؛ لأنَّ محتواها يساعدُ في التعرّفِ على طرائقِ الحياةِ والعاداتِ والشخصياتِ المؤثّرةِ في ذلكَ الوقتِ؛ حيثُ أنّ بعضَ هذه الأغنياتِ مَثّلتْ فلسطينَ في مختلفِ عصورِها القديمةِ منذُ بدايةِ القرنِ الماضي.

ويأملُ القائمونَ على إصدارِ الألبومِ الغنائي؛ أنْ يُمثّلَ خطوةً أُولَى في توثيقِ المزيدِ من الأغاني والرقصاتِ الشعبيةِ للتراثِ الفلسطيني؛ لِمَنعِ اندثارِها والإبقاءِ عليها حيّةً في زحمةِ الأغنياتِ المُعاصِرةِ الرائجةِ في الأفراحِ الفلسطينيةِ.

وهم يؤكّدونَ على أهميّتِها في الحفاظِ على التراثِ الفلسطينيّ القديمِ بتَنوُّعِه، فإنّ أمثالَ مبادرتِهم؛ فرديةً كانت أَم جماعيةً بحاجةٍ ماسّةٍ إلى دعمٍ رسميٍّ جادٍّ؛ بما يَضمنُ توسيعَ دائرةِ العملِ الفنيِّ الثقافيِّ ودَيمومَتَه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى