لا تَكونوا من أتباعِ “عنزة ولو طارت”
في أيامِ الطفولةِ، كنتُ أسرقُ بعضَ السجائرِ من أبي! فكان أبي يُلاحظُ النقصَ في عُلبةِ سجائرِه، وكان يوَجّهُ أصابعَ الاتهامِ إلى أخي الأكبرِ، ويوسِعُه ضربًا قاسيًا؛ دونَ أنْ يشُكَّ بي البَتَّة.
وعلى الرغمِ أنّ أخي الأكبرَ كان يُقسِمُ لأبي بكُلِّ المقدّساتِ؛ أنه ليس هو مَن يسرقُ السجائرَ، وأنه لم يفعلْ هذا مُطلقًا؛ لكنّ أبي لم يكنْ يُصدّقُه بالمَرّة.
وفي إحدى المَراتِ، نصبَ أبي كمينًا؛ وأخذَ وضعيةَ النومِ؛ ينتظرُ مجيءَ أخي لسرقةِ السجائرِ؛ حتى يقبضَ عليه بالجرمِ المشهودِ؛ لكنّ المفارَقةَ أنه ألقَى القبضَ عليّ أنا؛ ودونَ أنْ يفعلَ لي شيئًا، ثُم قال: أنا متأكّدٌ أنّ أخاكَ الأكبرَ هو مَن بعثَكَ لتسرقَ له السجائرَ؛ فذهبَ وأوسَعَ أخي ضربًا مرّةً أخرى!
هذه قصةٌ رواها أديبٌ هندي؛ تعكس مثلاً شعبيًا عربيًا شهيرًا يقولُ: “عنزة ولو طارت”، وهذا المَثلُ الشعبي ذائعُ الصيتِ كثيرًا في بلادِنا، وقصةُ هذا المَثلِ تبدأُ من عندِ صديقَينِ حميمَينِ ومُقرَّبَينِ من بعضهِما؛ يتجادلانِ حولَ الشيءِ الأسوَدِ المُلتَفِّ على أغصانِ شجرةٍ عاليةٍ؛ والشجرةُ بعيدةٌ لا تكادُ تظهرُ، فقال أحدُهم وهو أشدُّ وأحدُّ إبصارًا “هذا غرابٌ”، ولكنّ صديقَه ردَّ عليه مُنكِرًا؛ “مُستحيلٌ” هذه عَنزة!
واشتدَّ الجدالُ بينَهما، وتدَخّلَ الناسُ الذين أكّدوا أنّ الشيءَ هو غرابٌ؛ وواصَلَ الصديقُ عنادَه؛ على الرغمِ من طيرانِ الغرابِ؛ وظهورِه للجميعِ على أنه غرابٌ؛ ولكنَّه أصَرَّ على رأيِّه وقال: “إنها عنزة ولو طارت”!
وفي وجهٍ آخَرَ للمَثلِ قصةٌ أُخرى: يقالُ أنّ رجلاً مسلوبَ الإرادةِ من امرأتِه، التي طلبتْ منه ذاتَ يومٍ أنْ يبيعَ بطّةً من بطاتِه على أنها عنزةٌ؛ وبالفعلِ عَرضَ البطةَ للبيعِ على أنها عَنزةٌ.
وهنا، ضحكَ منه الرجالُ والنساءُ الحاضرونَ؛ وبقيَ الرجلُ مُصِرًّا على أنّ ما يَعرِضُه للبيعِ هي عنزةٌ؛ وليستْ بطةً؛ ولذلكَ تقدّم منه رجلٌ حكيمٌ؛ وحملَ البطةَ وتركَها تطيرُ فطارتْ أمامَ الجميعِ؛ ولكنّ الزوجَ بقيَ مُعانِدًا كذلكَ، وقال “إنها عنزةٌ ولو طارتْ”!
وعلى غرارِ هذه القصصِ؛ أصبحَ الناسُ يَضربونَ هذا المَثلَ للدلالةِ على العِنادِ والتمسُّكِ بالرأيِّ؛ على الرغمِ من وضوحِ الحقيقةِ؛ وهذا ما نعاني منه اليومَ كثيرًا في مجتمعاتِنا، فكثيرٌ من الناسِ تقولُ لهم: يمينًا؛ فيذهبونَ إلى اليسارَ، وإذا قُلتَ لهم: يسارًا؛ يذهبونَ إلى اليمينِ!
كم نحنُ بحاجةٍ ماسّةٍ إلى التوافقِ وتقريبِ وِجهاتِ النظرِ، والبُعدِ كلُّ البُعدِ عن المُعاندةِ، وذلكَ حتى تستمرَّ الحياةُ بشكلٍ جميلٍ؛ يَضمنُ للناسِ جمالَهم وإيجابيّتَهم.