التخلِيةُ قبلَ التحلِيةِ
عندما ينتهي بنا الإدراكُ إلى أنّ شهرَ الخيرِ والمغفرةِ على الأبوابِ؛ من الواجبِ علينا أنْ نسارعَ إلى مسحِ ذنوبِنا، والتوبةِ إلى اللهِ قبلَ إقامةِ عباداتِنا في شهرِ رمضانَ، والتقرُّبِ إلى اللهِ بالطاعاتِ في هذا الشهرِ الفضيلِ، فترانا نُقدِمُ على هذه العمليةِ بشكلٍ تلقائيّ؛ دونَ تعنُّتٍ من ذاكرتِنا في سَرْدِ أخطائنا في الأشهرِ المنصرِمةِ؛ وذلك لأننا أدركْنا تمامَ الإدراكِ أنَّ الأيامَ المتبقيةَ لم تَعُدْ تحتملُ خطأً جديدًا، وما عادتْ الصحيفةُ تتّسِعُ لشيءٍ من الذنوبِ والمَعاصي، فيأتينا الشهرُ الكريمُ بمنزلةِ فرصةٍ ثمينةٍ تَهَبُ أرواحَنا الحياةَ من جديدٍ!
وهنا أؤكّدُ أنه لابدَّ من أنْ تسبقَ التخليةُ، التحليةَ؛ ورُبما توَدُّ أنْ تسألَني ماذا تقصدُ بالتخليةِ قبلَ التحليةِ، والمقصودُ بالتخليةِ هو:
ترقيةُ النفسِ وتزكيتُها، وتطهيرُها من كلِّ الرذائلِ، والأخلاقِ الفاسدةِ، عبرَ تَخلِيَتِها وذلكِ بالابتعادِ عن الحسدِ، والغيبةِ والنميمةِ، والإفسادِ بينَ الناسِ، والرياءِ والكِبرِ، والغرورِ، والبخلِ، وغيرِها من الرذائلِ.
وأمّا المقصودُ بالتحليةِ: هو أنْ يكونَ الإنسانُ قد تحلَّي وتَجَمّلَ بعدَما قد تخلَّي عن كلِّ الشوائبِ والمعايب؛ فأصبح متُحلِّيًّا بحُلةِ التقوَى والإيمانِ، والصدقِ، والصبرِ، والنقاءِ والطيبةِ وطهارةِ قلبِه، ومُحِبًّا للخيرِ، فاعلاً للصالحاتِ، ومؤديًّا للطاعاتِ، يتصِفُ بالفضائلِ, عفيفَ النفسِ، كريمًا، مقدامًا ومعطاءً، مؤدّبًا حكيمّا، ذا رجاحةِ عقلٍ، وصاحبَ فِكرٍ مُّستنيرٍ، فتلكَ هي التحلية بعَينِها.
أي أنّ التّحليّةَ تَعني، العملَ بالطاعاتِ والفضائلِ والقُرباتِ؛ التي تؤَهّلُ القلبَ للوصولِ لمرحلةِ التجليّة وهي السّموُ بالروحِ والنّفسِ والعقلِ في سبوحات الأسرارِ والحكمةِ والملكوتِ.
أتَرَى لو نشأَ صراعٌ بينَ دوافعِ الخيرِ ودوافعِ الشرِّ في داخلِنا بحثًا لكُلِّ منهما عَن فُرْجةٍ يَدُسُّ فيها أعمالُه، لينتصرَ؛ وماذا لو أصَرَّت جوارِحُنا على أنْ تقترفَ مزيدًا من المعاصي وتدونها عَلى صفحات الأيام الجديدة وانْصاع القلم لرغبتها؟
ألا يذكرنا ذلك بذنوب الماضي التي تُخيِّم بعتمتها على قلوب البعض، فينغَمِسون فيها حَدَّ الغرق!
أترى كيف هم أسرى لأحزانهم ومعاصيهم، يتباطؤون إذا ما ناداهم منادي الخير وقد أشاحوا بوجوهِهم عنه، وأصمُّوا آذانَهم، ثم مضوا مُهرولين إلى حيث يقبعون دائمًا في تلك الزاوية الكئيبة المعبقة بغبار الرذيلة، مكبلين بالعجز وقلة الحيلة وسوء التدبير؟!
أولئك الذين حرموا أنفسهم بأنفسهم متعة المحاولة الجادة للبدء من جديد، حينما أساءوا الظَّنَّ بأنفسهم وبخالقهم، ولم يفقهوا قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم…). (الرعد-11)
وأولئك هم الذين يقصرون مع أنفسهم قبل غيرهم، فتنزلق فرصة النجاة من بين أيديهم، فتفتر عزائمهم وتخور قواهم، فيشعرون بهالة من الفشل تطوقهم من كل جانب، فيتسلل اليأس إلى قلوبهم فتراهم يستسلمون للفشل والتقصير.
لكن أظنكم على يقين مثلي؛ أنه لا يوجد فشل مطلق في هذه الحياة خاصة إن حاول الإنسان ولم ييأس، فكم من معصية أورثت توبة بعد ذل وافتقار.. وجعلتنا نقف مع أنفسنا وقفة تفكر وتدبر فكانت السبب في الرجوع إلى الله فَتُقدِم العبد خطوات في دروب الفلاح والنجاة.
يا هذا؛ الأخطاء لا تنتهي إلا بانتهاءِ الأجَل، لكنَّها تقل بزيادة الوعي والخبرة والتقوى ومجالسة الصالحين، ولا تُكتسب الخبرة إلا بسبر أغوار الحياة الإيمانية، والتعلّم منها، ومن ثم تجاوزها بتحد وإيمان وعقل قلبٍ لا يعرف للمعصية طريقا.
نعم فالخطأ هو ذاك الشيء الذي قد فعلته وحصلت على نتيجة لم تكن تريدها، لكن من الحماقة أن تكرر الأمر نفسه مرة أخرى، مما يفقدك القدرة على الإمساك بزمام نفسك الأمارة بالسوء، وكذا سيفقدك التوفيق والنجاح.
أظنك توافقني الرأي أن النجاح مطلب وضرورة لإرضاء الذات وتعزيز الثقة بالنفس، ونيل إعجاب الآخرين وانتزاع مكانة متقدمة بينهم.
ياحبيب.. اعلم أن من قام بصناعة غيوم التغيير، قادر على يحولها إلى غيث نافع أو إلى أمطار سجيل تهطل على ذنوبه ومعاصيه فتحرقها حرقا.