
كانت أبرزُ نتائجِ حربِ مايو (2022) أنّ مفهومَ التحريرِ الكاملِ لفلسطينَ؛ لم يَعُدْ أسطورةً، أو ضَربًا من ضروبِ الخيالِ؛ إنها حقيقةٌ ستَحدُثُ قريبًا؛ لِذا ليس غريبًا أنْ تُقدِمَ طالبةٌ _وُلدتْ بعدَ “أوسلو” بسنواتٍ طويلةٍ_ مشروعَ تخرُّجِها عن حاجزِ “قلنديا” بعدَ التحريِر!
وحاجزُ “قلنديا” هو أحَدُ أكبرِ الحواجزِ العسكريةِ التي أقامَها جيشُ الاحتلالِ الإسرائيلي؛ عَقِبَ الانتفاضةِ الفلسطينيةِ الثانيةِ، التي اندلعتْ نهايةَ سبتمبر/أيلول (2000)؛ يقعُ جنوبَ مدينةِ رام الله، على الطريقِ التي تَصِلُها بمدينةِ القدسِ المحتلة.
تاريخٌ أسوَدُ
والحاجزُ محاطٌ بمناطقَ عازلةٍ، وأسلاكٍ شائكةٍ، وحواجزَ إلكترونيةٍ؛ إضافةً إلى بواباتٍ وكاميراتٍ تمنعُ دخولَ الأشخاصِ إلّا من خلالِ ممراتٍ شبيهةٍ بالأقفاصِ، وحواجزَ دوّارةٍ يرتفعُ كلُّ واحدٍ منها لأكثرَ من مِترينِ.
ويصفه الفلسطينيون معبر قلنديا بأنه بوابة للإذلال، ومصدر معاناة كبيرة للعمال والموظفين والمرضى الذين يتنقلون من القدس المحتلة وإليها.
ويُعَدُّ هذا الحاجزُ مصدرَ معاناةٍ للفلسطينيينَ، وأداةً لتمزيقِ أوصالِ الأراضي الفلسطينيةِ المحتلةِ_ إذْ يتعيّنُ على كلِّ فلسطينيٍّ يرغبُ في التوَجُهِ إلى القدسِ المحتلةِ، أو القدومِ منها إلى وسطِ الضفةِ الغربيةِ_ المرورَ بهذا الحاجزِ، حيثُ يخضعُ للتفتيشِ، ويستغرقُ عبورُه أحيانًا عدّةَ ساعاتٍ.
وقد حوّلتْهُ إسرائيلُ أواخرَ (2001) إلى حاجزٍ عسكريٍّ ضخمٍ؛ أعاقَ إلى حدٍّ كبيرٍ تَنقُلَ المَدنيّينَ، وعطّلَ الحركةَ الاقتصاديةَ، وزادَ من عزلةِ القدسِ.
المهندسةُ المعماريةُ سَجى عماد البرغوثي -22 عامًا – خصّصتْ مشروعَ تخرُّجِها “لإعادةِ تدويرِ حاجزِ قلنديا بعدَ التحرير”، ويهدفُ المشروعُ معالجةَ العمارةِ الاستعماريةِ المتروكةِ بعدَ التحريرِ، وإعادةَ توجيهِ هذه العمارةِ لتحوي وظائفَ ثقافيةً مجتمعيةً تَسردُ في مضامينِها التاريخَ الأسوَدَ الذي مضَى لهذا الحاجزِ؛ على مدارِ سنواتِ وجودِه في ذاكرةِ كلِّ مَن مرُّوا خلالَه.
تقولُ سجى لـ “السعادة”:” إنّ فكرةَ مشروعِ تخرُّجِها جاءتْ من الواقعِ الذي يعيشُه الفلسطينيونَ في الضفةِ، عندَ تنَقُلِهم بينَ المُدنِ، بقصدِ تحديدِ حركةِ الفلسطينيينَ، ووقفِ حواسِّهم، وقمعِهم والتنكيلِ بهم، وتفسيخِ نسيجِهم الاجتماعي والجغرافي والوطني، وحاجزُ قلنديا، كأحدِ الحواجزِ العسكريةِ، يؤدّي حاليًا هذه الأدوارَ، مؤكِّدةً أنّ المعاناةَ اليوميةَ للفلسطينيينَ على حاجزِ قلنديا؛ أمرٌ لا يُستهانُ به؛ بسببِ المُنغِصاتِ والانتهاكاتِ التي يتعمّدُ الاحتلالُ تطبيقَها على كلِّ مَن يمرُّ من هناك؛ حتى باتَ الحاجزُ رمزًا للقهرِ والإذلالِ.
إعادةُ تدويرٍ
وتضيفُ: في إحدى المرّاتِ، جالَ بخاطري؛ هذا المكانُ ماذا سيَصبحُ بعدَ التحريرِ؟ وكيف سنتعاملُ معه كفلسطينيينَ، وهذا السؤالُ دفعني إلى الاهتمامِ بالتفاصيلِ، والانطلاقِ إلى مشروعِ تخرُّجي من كليةِ الهندسةِ، حولَ هذا المكانِ بعدَ التحريرِ.
وتقولُ: “الفكرةُ الأساسيةُ للمشروعِ؛ إنهاءُ الطابعِ الاستعماري له، ورسْمُ ملامحَ جديدةٍ للمكانِ؛ تعطي طابعَ السلامِ وليس القمعَ والذلَّ”، لافتةً في الوقتِ ذاتِه إلى أنها حافظتْ في مشروعِها على رمزيةِ وملامحِ الحاجزِ؛ باعتبارِه جزءًا من التاريخِ الأسودِ الذي عانَى منه الفلسطينيونَ.
وأضافت: “استغليتُ العمارَ الحالي؛ لكنْ أعدتُ تدويرَه بما يتناسبُ مع الاستقلالِ، خاصةً أنّ مشروعي يحملُ أبعادًا سياسيةً واجتماعيةً واقتصاديةً وفنيةً”.
ويتضمنُ مشروعُ “البرغوثي” مبنًى كبيرًا يضمُّ طوابقَ عِدّة؛ أحدُها خصَّصتُه لرياضةِ المَشي؛ وفيه دلالةٌ للركضِ نحوَ المقاومةِ، وطابقٌ آخَرُ اقتصاديٌّ يوضّحُ ما كان يشكّلُه حاجزُ قلنديا في قمعِ الحركةِ الاقتصاديةِ؛ وبالتالي بعدَ التحريرِ بات ممرًّا سهلاً للاقتصادِ المَحلي، كما تَذكرُ المهندسةُ.
يقينُ التحريرِ
وأشارت إلى أنّ أحدَ طوابقِ مشروعِها خصَّصتْهُ للفنِّ الثوري، الذي فيه نوعٌ من الاحتجاجِ؛ ويعني أنّ الثورةَ مستمرةٌ، ويحتوي على قسمٍ للموسيقى، وآخَرَ للنحتِ والرسمِ، وكذلكَ الأزياءِ بما يخدمُ المجتمعَ، وسيكونُ التصميمُ الهندسي للجدارِ، والحاجزُ بعدَ تحريرِ فلسطينَ، كمكانٍ يُظهِرُ سهولةَ الوصولِ إلى أماكنَ أخرى، ومكانٍ للرسمِ والفنِّ واللعبِ، ومعرِضٍ فنيٍّ يُظهِرُ الصورةَ الثوريةَ للشعبِ الفلسطيني. والأهمُّ هو أنه مكانٌّ لحريةِ الحركةِ.
تحكي سجَى؛ أنها في بدايةِ المشروعِ واجهتْ بعضَ المعيقاتِ؛ منها عدمُ وجودِ مخطَّطٍ لحاجزِ قلنديا؛ ما اضطَّرها للنزولِ إليه، والقياسِ والتصويرِ عبرَ الجوالِ، فكانت تخشى أنْ يكشفَها الجندي إسرائيلي؛ لكنّ إصرارَها جعلَها تتابعُ عملَها بإتقانٍ وتَحدٍّ حتى النهايةِ؛ وذلكَ رغمَ محاولاتِ البعضِ في البدايةِ؛ دفْعَها للعدولِ عن فكرةِ المشروعِ؛ كونَها لن تجدَ المَراجعَ والمخطّطاتِ الكافيةَ التي ترشدُها.
وترى البرغوثي ان الفضل الأول والأخير لوالدها البروفيسور عماد البرغوثي الذي كان داعما للفكرة من مهداها إلى أنْ أصبحتْ جزءًا من تخطيطي وتفكيري؛ ثم انتقلتْ إلى حيزِ التنفيذِ؛ بل إنه أصبح انتماءً للفكرةِ والمشروعِ بشكلٍ عميقٍ، وكان صاحبَ أكثرَ من طرحٍ وفكرةٍ حملتْ الآمالَ الجميلةَ للتحرُّرِ من الحاجزِ، منوّهةً أنها تلقّتْ الدعمَ والتأييدَ والاستشارةَ المستمرةَ من أساتذةِ العمارةِ في جامعةِ القدسِ المفتوحةِ.
تؤكدُ سجى لـ “السعادة” أنّ اتجاهَها وتحمُسَها لفكرةِ المشروعِ نابعٌ من إيمانِها الكاملِ بأحقيةِ الشعبِ الفلسطيني بالتحرُّرِ قريبًا، وبعدالةِ القضيةِ الفلسطينيةِ، مؤكّدةً أنَّ هذه الأفكارَ تعني أنّ الجيلَ الحديثَ على يقينٍ بأنَّ التحريرَ قادمٌ لا مَحالةَ، وأنه مَهما مرَّ الزمنُ؛ فإنّ الأجيالَ تتعلقُ بأوطانِها أكثرَ وأكثرَ يومًا بعدَ يومٍ، ولن يستطيعَ الاحتلالُ هدْمَ هذا التعلّقِ والارتباطِ الوطنيّ.