
بيتُ الجدِّ والجدّةِ؛ يكونُ مَسرحًا للحريةِ، والحبِّ، والدفءِ، والضحكاتِ، والأكلاتِ الطيبةِ، والمَسموحُ فيه الكثيرُ.. فَهُم يسعونَ على إسعادِ أحفادِهم وإعطائِهم كلَّ ما يرغبونَ به؛ في أجواءٍ بعيدةٍ عن صرامةِ وحزمِ الوالدَينِ، تتقلّصُ فيه المَمنوعاتُ، وتزيدُ المَسموحاتُ..
حياةُ الأحفادِ فيها مُتعةٌ من نوعٍ آخَرَ للأجدادِ، فيها استعادةٌ لحياةِ البنوّةِ، ومشاعرِها التي لا تنتهي بتقادُمِ العمرِ، أو التوَقُفِ عن إنجابِ الأطفالِ، وفيها تبدأُ حياةٌ جديدةٌ لم تَكنْ من ذي قبلُ؛ حياةٌ مُشِعّةٌ بنورِ الحبِّ ودفءِ العواطفِ الفياضةِ حنينًا
“السعادة” كان لها جولتُها بينَ الأجدادِ والأمهاتِ؛ لتتعرّفَ على قوةِ العلاقةِ المَتينةِ بينَهم؛ وهل فعِلاً “ما أعَزَّ من الولدِ إلّا وَلدُ الولدِ”؟
أعَزُّ من أبنائي
الستينيةُ أم خالد “عايشة”، أجملُ لحظاتِ عُمرِها مع أحفادِها؛ فهي مرتبطةٌ بِهم ارتباطًا كبيرًا، تشتاقُ لهم.. تقولُ:”حينَما يجتمعُ الأبناءُ والأحفادُ معًا على مائدتي؛ أشعرُ بالفرحِ يغمرُني، أريدُ للزمنِ أنْ يتوَقّفَ؛ لأعيشَ أجملَ الأوقاتِ معهم؛ فأشعُرَ بِأُمومَتي من جديدٍ، حيثُ تَعودُ الَّلماتُ الحلوةُ، وأصواتُ الضحكاتِ لِبَيتي “.
تتابعُ:”علاقتي مع أحفادي أقرَبُ للصداقةِ؛ فأنا حلقةُ الوصلِ بينَي وبينَ والدِيهم؛ يَطلبون مِني كلَّ ما يريدونُ؛ ولا أرفضُ لهم طلبًا، أنزِلُ لِعالَمِهم، وأقتربُ منهم، فأنا مُستَودَعٌ لأسرارِهم، والأجملُ أني أجِدُهم يسمعونَ كلامي أكثرَ من والدِهم “.
تُشارِكُها الحديثَ حفيدتُها “لانا”، في الصفِّ السادسِ فتقولُ: “جدّتي حَنونةٌ ولطيفةٌ جدًّا مع الجميعِ أنا وإخوتي؛ حَنانُها مختلفٌ؛ يزدادُ أضعافًا؛ إنها كثيرًا ما تُقدّمُ لي ولأبناءِ أعمامي النصيحةَ بقلبٍ دافئ، ووَعيٍّ مميّز، رغمَ أنها لم تُكمِلْ دراستَها الابتدائيةَ؛ لكني تعلّمتُ منها الكثيرَ من الخصالِ الحسنةِ؛ كالدعاءِ، والكرمِ، وحُسنِ الظنِّ بالآخَرينَ، واحترامِ آرائهم، تقولُ: “جدّتي تملكُ حلولاً سِحريةً لكُلِّ مشكلةٍ نابعةٍ من فطرتِها المَبنيةِ على مبادئِ الإسلامِ، وتوجيهاتِه الحكيمةِ، فبإمكانِها أنْ تَفُضَّ أيَّ اشتباكٍ يَحدثُ؛ سواءٌ بينَ الأحفادِ، أو الأبناءِ، أو حتى زوجاتِ الأبناءِ”.
جمالُ الحياةِ
أمُّ محمد حسونة (55) عامًا، ترى جمالَ يومِها برؤيةِ أحفادِها؛ فهُم يبعثونَ في حياتِها مذاقًا ولونًا خاصًّا، على الرغمِ من كافّةِ مواقفِهم وأفعالِهم الشقيَّةِ، تقولُ :”هم يريدونَ الَّلهوَ واللعبَ في كلِّ وقتٍ”.
ولا تُخفي الجدّةُ أنها كثيرًا ما تُجاريهِم في ألعابِهم، وتشيرُ إلى أنَّ أحفادَها يمنحوها مُتعةً أخرى في الحياةِ، فهُم يَعُدُّونَها صديقةً لهم؛ وهي تَعُدُّهم أعزَّ من الأبناءِ الذين أعادوا لها شبابَها وذكرياتِها مع أبنائها، وتُرجِعُ الجدّةُ علاقتَها الوطيدةَ مع أحفادِها إلى محاولاتِها الحثيثةِ للتقرُّبِ من أحفادِها، والاستماعِ إليهم، ومشاركتِهم اهتماماتِهم، وهواياتِهم بالطريقةِ التي يرتضونَها، ووفقًا لأسلوبٍ تربويٍّ اتَّفقَتْ على أساسياتِه مع ابنِها وزوجتِه في التعاملِ مع الحفيدِ، وتؤكّدُ لنا الجدّةُ أنَّ التفاهمَ والاتفاقَ على أسلوبٍ موَحّدٍ في التعاملِ؛ بالإضافةِ إلى تغليفِه بالمزيدِ من المحبةِ؛ وليس التدليلَ الزائدَ؛ هذا هو أساسُ التربيةِ والعلاقةِ السليمةِ مع الصغارِ.
وتوضّح الجدّةُ أنها تحاولُ وزوجُها أنْ يمنحا أحفادَهما النصيحةَ والتوجيهَ بحُبِّ أكثرَ، بعيدًا عن العقابِ الذي قد يواجهونَه من آبائهم؛ ما يَجعلُهما يستعيدانِ المشاعرَ الأبوَيةَ مع الأحفادِ، لافتًة إلى أنّ أبناءَها كثيراً ما يلجئون إليها لتوصيلِ شيءٍ مُعيَّنٍ لأبنائِهم؛ لم يُفلِحوا في إقناعِهم به.
في حين تَعدُّ الجدّةُ “أم أحمد عبد الله”، أنّ التربيةَ اختلفتْ بينَ الجيلِ القديمِ والجيلِ الجديدِ؛ أو جيلِ الإنترنت، وهنالك صعوبةٌ في التعاملِ معه؛ لأنه جيلٌ مزاجيٌّ جدًّا، جيلٌ مستقِلٌّ ولا يحبُّ السيطرةَ عليهِ؛ لكنْ كونَها معلمةَ مدرسةٍ، ونتيجةً لخبرتِها في التعليمِ؛ استطاعتْ التعاملَ مع الأحفادِ، والتعاطي معهم، وعندما تتضايقُ منهم تعتمدُ أسلوبَ الصمتِ والتجاهلِ كَنوعٍ من العقابِ، وتعترفُ بأنّ الاختلافَ موجودٌ بينَ التربيةِ الحديثةِ والتربيةِ القديمة.
وتَعُدُّ الجدّةُ الأربعينيةُ “منال عابدين” أنّ الأحفادَ قطعةٌ من كَبدِ الأجدادِ؛ ولهم حقٌّ في تربيتِهم؛ كما أنّ على الآباءِ أنْ يُعطوا هذا الحقَّ للأجدادِ، فالأحفادُ هم حصادُ العمرِ بالنسبةِ للأجدادِ؛ وليس من حقِّ الآباءِ أنْ يَحرِموا الأجدادَ من المشاركةِ في تربيتِهم. وفي كثيرٍ من الأحيانِ تَحصلُ مشاحناتٌ بينَ الآباءِ والأجدادِ بشأنِ طرُقِ التربيةِ التي ينتهِجُها الوالدانِ؛ مِثلَ ضربِ الأبناءِ بقسوةٍ أمامَ الجدّينِ.
وتضيفُ: “لا أقبلُ أبدًا أنْ يجريَ ضربُ أحفادي أمامي؛ فهذه تثيرُ في نفسي الألمَ، وعلى بناتي أنْ يعرِفنَ أنّ للأجدادِ خبرةً بطرُقِ التربيةِ، ويجبُ أنْ نَتّفِقَ على طريقةٍ مُعيّنةٍ لتَكونَ التربيةُ صحيحةً وبعيدةً عن التشَنُجِ الذي يَنتجُ عنه تضارُبُ الآراءِ حولَ تربيتِهم”.
تدليلٌ وعطاءٌ
وعلى الرغمِ من الإيجابياتِ التي يكتسِبُها الأحفادُ؛ نتيجةَ قُربهِم من الأجدادِ؛ كالحُبِّ والعطفِ والحنانِ، والعديدِ من المبادئِ القويمةِ، والأخلاقِ السليمةِ، والسلوكيات الصحيةِ دينيًا وتربويًا واجتماعيًا؛ إلّا أنَّ بعضَ الأمهاتِ تشكو من إفراطِ الأجدادِ في تدليلِ أحفادِهم.
تقولُ عُلا (31) عامًا – متزوجةٌ وتقطُنُ مع جدّةِ أبنائها لأبيهِم في ذاتِ البيتِ،: “تحرصُ جدّةُ أبنائي على سعادتِهم وتلبيةِ كافةِ رغباتِهم؛ لكنها تزيدُ الدلالَ وتُفرِطُ فيه للأحفادِ الذكورِ؛ دونَما الإناثُ”؛ مؤكِّدةً أنها تتصرفُ بهذه الطريقةِ وفقًا للعاداتِ والمواريثِ المتعارَفِ عليها.
فيما بيَّنتْ سهام عوض تقولُ:”إنّ تعامُلَ الأجدادِ مع الأحفادِ له كثيرٌ من المميزاتِ؛ إذْ يمنحُ الأحفادَ الأمانَ والاستقرارَ الأُسري، ويمنحُهم قدرةً على التواصلِ بأصولِهم، وأيضًا يُهدِيهم النصيحةَ المغلّفةَ بالحنانِ والعطفِ، والمُدَعمةَ بالخبراتِ السابقةِ”.
, تضيفُ :”الآباءُ من شأنِهم أنْ يحدُّوا من التأثيراتِ السلبيةِ على الأحفادِ؛ بالتفاهمِ مع الأجدادِ على أسلوبٍ تربويٍّ مُتناغمٍ غيِر مُشرذِمٍ، ويقومُ على العدلِ في المعاملةِ بين الأحفادِ جميعِهم من الذكورِ والإناثِ، ومن الصغارِ والكبارِ في ذاتِ البيتِ، أو يَقطُنونَ خارجَه.
محفوفةٌ بالحُبِّ
الأخصائي النفسي “محمود منصور”؛ يصِفُ العلاقةَ بينَ الأحفادِ والأجدادِ بأنها وُدِّيةٌ ومتينةٌ، ومن أجملِ العلاقاتِ التي تجمعُ بينَ أفرادِ الأسرةِ؛ كونَها علاقةَ تَواصلٍ وامتدادٍ محفوفةً بالموَدةِ والألفةِ؛ بل هي بحسبِ تعبيرِه “علاقةٌ أبوَيةٌ بالابنِ والحفيدِ”.
يقولُ :”إنها علاقةٌ متبادلةٌ بينَ الطرَفينِ؛ فالأحفادُ ينظرونَ إلى أجدادِهم على أنهم رَمزُ الحكمةِ، ومنبعُ الحنانِ والعطفِ، و الأجدادُ يَقِفونَ عندَ محطةِ التقويمِ لعلاقتِهم بأبنائهم، قائلاً: “فإذا ما أحسّوا بأنّ أحدَ أساليبِهم في التربيةِ لأبنائهِم؛ كان يشوبُه نسبةٌ من الخطأِ، يجتهدونَ في تفاديهِ بعلاقتِهم التربويةِ والتوجيهيةِ مع الأحفادِ؛ موضِّحًا ضرورةَ الاقتداءِ برسولِ اللهِ _صلى الله عليه وسلم_ في علاقتِه بحفيدَيه “الحَسَنِ والحُسينِ”؛ فيُعاملونَهم بمزيدٍ من الرحمةِ والعنايةِ والرعايةِ.
ويتابعُ حديثَه :”إنّ الأجدادَ لهم دورٌ كبيرٌ في غرسِ القيَمِ الأخلاقيةِ في نفوسِ الأبناءِ؛ وتربيتِهم تربيةً قويمةً؛ وذلكَ عبْرَ أساليبَ تربويةٍ مختلفةٍ؛ كالقصصِ والمحاكاةِ والقدوةِ الحسنةِ، لافتًا إلى أنّ الرسولَ _صلى الله عليه وسلم_ قد اتّبَعَ تلكَ الأساليبَ؛ وجاءَ القرآنُ الكريمُ مؤكّدًا عليها، فاحتوى أكثرُ من (75%) من سوَرِه المباركةِ على القصصِ التي هي أسلوبٌ تربويٌّ معروفٌ، ويَصلُحُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
يواصِلُ حديثَه: إنّ تلكَ العلاقةَ تجعلُهم يتحينونَ الفُرصَ؛ خاصةً إذا ما باعدتْ بينَهم المسافاتُ في مكانِ الإقامةِ؛ لِنَهلِ المزيدِ من العطفِ والحنانِ والحبِّ؛ بما يحقِّقُ لهم الأمنَ الوقائي التربوي، والاطمئنانَ، والاستقرارَ الأُسري، ويجعلُ شخصيتَهم سليمةً وقويمةً؛ يشُبُّ فيها الأحفادُ على أرضيةٍ خصبةٍ من الحنانِ والاحترامِ المتبادَلِ.
ويُرجِعُ حالاتِ التنافُرِ التي تَحدثُ بينَ الأجدادِ والآباءِ، إلى طبيعةِ العلاقةِ التي تكونُ بينَ الأحفادِ بالأجدادِ. لافتًا إلى أنّ الجدَّ دائمًا ما يكونُ أكثرَ حنانًا وحبَّا وعطفًا، بينما الآباءُ يعمَدونَ إلى استخدامِ أسلوبِ الأمرِ والنهيِ في تقديمِ النصيحةِ، وأضافَ قائلاً: “كثيرٌ من الأمهاتِ تحاولُ أنْ تُعلّمَ أبناءَها وفقَ أساليبِ التربيةِ الحديثة،ِ والبيئةِ الحاليةِ؛ ومن هنا لا يُفَضِّلُ الجدُّ أنْ تعاقِبَ الأمُّ ابنَها.. فينشأَ الخلافُ”.
التفاهمُ والحوارُ
وتشيرُ المستشارةُ الأسريةُ د.”ختام أبو عودة” إلى أنّ ما يَجذِبُ الطفلَ للجدَّينِ هو تدليلُهما له، كما أنّ عاطفةَ الأجدادِ تمنعُ الوالدينِ من معاقبةِ أبنائهما؛ وهذا أكثرُ ما يُحبُّه الأطفالُ، ولا يوجدُ أجدادٌ هدفُهم إفسادُ المنظومةِ التربويةِ للأبِ والأمِّ؛ وإنما تنشأُ تصرُّفاتُهم من دافعِ الحبِّ، فهُم يكسِرونَ قواعدَ الأبِ والأمِّ بإغداقِ المشاعرِ، فيُفسِدونَ الأحفادَ بالدلالِ الزائدِ”.
تتابعُ د. “أبو عودة” يرفضُ الطفلُ نصيحةَ والدَيهِ أحيانًا؛ عندما تَحمِلُ توبيخًا أو تهديدًا، ويَقبلُها من أجدادِه؛ لأنّ أسلوبَهم يَظهرُ بمَودةٍ وحبٍّ أكثرَ؛ لذلك على الأهلِ أنْ يمنحوا أطفالَهم الأمانَ والحنانَ.
تضيفُ :”إنّ الأبَ والأمَّ يعيشانِ الأبوّةَ والأمومةَ مع أطفالِهما بِحُلوِها ومُرِّها؛ لكنّ الجدَّينِ يعيشانِ مع الأحفادِ الأبوَّةَ والأمومةَ المتأخِرةَ إلّا في حُلوِها فقط، أمّا الجانبُ المرُّ فيتركانِه للأبِ والأمِّ؛ لِذا يرى الأجدادُ في الأحفادِ امتدادًا طبيعيًا لسُلالتِهم، ومصدرَ سعادةٍ وفخرٍ في حياتِهم.
وتوضّح : إنّ كثيرًا من المشاكلِ التي تَحدثُ بين الزوجينِ، والتي ينعكسُ أثرُها السلبيُّ على تربيةِ الأبناءِ، تُحَلُّ بكُلِّ سهولةٍ من قِبلِ الجدَّينِ؛ بِحُكمِ خبرتهِما في الحياةِ، كما أنّ الجدَّ أفضلُ معلّمٍ للأحفادِ، وصغارُ السنِّ يُنصِتونَ لنصيحتِه أكثرَ من أيِّ وسيلةٍ إعلاميةٍ؛ لذلكَ فإنّ لوفاةِ جدِّهم الأثرَ العميقَ والحزينَ في حياتِهم.
وتُبيّنُ د. “ختام”: إنّ بالتفاهمِ والتوازي في أسلوبِ المعاملةِ والتربيةِ؛ يُمكِنُ الوصولُ إلى حلولٍ، ويمكِنُ أنْ تبقَى العلاقةُ وطيدةً، بعيدًا عن أيِّ تنافُرٍ؛ ناصحًا الآباءَ بتَفَهُمِ تلكَ العلاقةِ، ويَعمدونَ إلى التوافقِ مع الأجدادِ بالإقناعِ والتفاهمِ؛ إلى أسلوبٍ تربويٍّ يُحقّقُ الغايةَ السليمةَ في تربيةِ الأبناءِ.