إتيكيت الروح
للروحِ تَوليفةٌ عجيبةٌ تجذِبُنا بطريقةٍ مذهلةٍ؛ فنَميلُ تلقائيًّا إلى مَن يشبهونَ أرواحَنا؛ نَنْشَدُّ لهم بدونِ إذنٍ؛ نجدُ أنفسَنا معهم وبِهم؛ فنُزهِرُ مع الأرواحِ التي تَنسجمُ، وتتَفهَّمُ، وتُقدِّرُ أرواحَنا؛ لنعيشَ جمالَ الحياةِ بأدَقِّ تفاصيلِها؛ ببَساطتِها وروعةِ رَونَقِها.
نعيشُ عُمرًا نبحثُ عن أرواحٍ بنَفسِ التركيبةِ والكيمياءِ لأرواحِنا.. نبحثُ عن إتيكت الروحِ لتقديرِ ذواتِنا، وجمالِ أحاديثِنا، وطريقةِ أسلوبِنا، نبحثُ عن مغناطيسَ لأرواحٍ تتشابَه معَنا داخليًا لا شكلًا؛ لأنّ الوجوهَ والأشكالَ تتكرّرُ، أمّا الأرواحُ فلا تتكرّرُ، فعالَمُ الأرواحِ يتعدَّى الشكلياتِ والمادياتِ؛ حيثُ التجانسُ في الطباعِ الباطنةِ، والأخلاقِ الخفيّةِ؛ يُورِثُ تجاذُبَ الأرواحِ؛ وهذا ما يُعرفُ بالتخاطرِ أو تجاذبِ الأرواحِ.
فالأرواحُ إذا التقتْ واتّفقتْ واشتاقتْ؛ يَجمعُها تجانسٌ عجيبٌ يَسوقُ بعضَها إلى بعضٍ، فيقولُ جبران خليل جبران:”ما أجهلَ الناسَ الذين يتوَهَّمونَ أنّ المحبةَ تأتي بالمُعاشَرةِ الطويلةِ! إنّ المحبةَ الحقيقةَ هي ابنةُ التفاهمِ الروحي”.
وهذا ما يَحدثُ معَنا في حياتِنا؛ نقتربُ من أصحابِ الروحِ الجميلةِ التي تمنحُنا الحبَّ والاهتمامَ بها، نكتمِلُ ونكونُ ونواصِلُ الحياةَ مع من يَهتمونَ بتفاصيلِ تفاصيلِك، ومُجردِ سماعِ صوتِك أو رؤيتِك؛ تبتسمُ روحُهم وقلوبُهم مَن تَخطُرُ في بالِهم في الفرحِ والحزنِ، من يتذكّروكَ في المواقفِ الجميلةِ، من يدْعونَ لكَ في غيابِك، ويتمنونَ لكَ النجاحَ والتميّزَ، من لا تَهونُ عليهم، ويسعونَ لسعادتِكَ ورضاكَ بأصغرِ التفاصيلِ.
فعندما يتناغمُ الفكرُ؛ وتنسجمُ الأرواحُ؛ تتحطّمُ أمامَها كلُّ المفاهيمِ الماديةِ؛ ليُخلَقَ توافُقٌ روحيٌّ؛ حيثُ تأخذُنا الأقدارُ لنتقابلَ مع أرواحٍ تتجانسُ معنا، نَحسُّ بما يحسُّونَ، ونشعرُ بما يشعرونَ؛ وكأنَّ هناك رابطًا بينَ أحاسيسِنا، والطبيعةُ شاهدةٌ مِن حولِنا على التوافقِ والتنافرِ، ففي الكيمياءِ هناك أَيُوناتُ تتفاعلُ وتتجاذبُ، وفي الفيزياءِ عناصرُ تتآلفُ وتتنافرُ، بينَما تجاذُبُ الأرواحِ أقوَى أنواعِ التجاذبِ، لأنها الأصدقُ إحساسًا، والأكثرُ عمقًا.
الأرواحُ لها القدرةُ على التخاطُرِ، وإدراكِ خبايا النفسِ، وأثرُها عميقٌ بِعُمقِ تجاذُبِ تلكَ الأرواحِ، وفي حياتِنا مواقفُ غريبةٌ لا يُمكِنُ أنْ نفسِّرَها.. وكثيرًا ما نتساءلُ بينَنا وبينَ أنفُسِنا عنها.. فيَحدُثُ أحيانًا أنْ شاهدتَ وجهًا فألِفْتَهُ، وسمعتَ صوتًا فانجذبتَ نحوَه دونَ أنْ تراهُ؟! ألَمْ تجلسْ مع شخصٍ لدقائقَ معدودةٍ؛ ثُم تَخرجْ من لقائِكَ به؛ وكأنكَ تَعرِفُه من سنينَ؟
ألَمْ تتحدّثْ مع إنسانٍ لا يَمُتُّ إليكَ بِصِلَةٍ، وتَبعُدُ بينَك وبينَه المسافاتُ، أو تفصِلُكَ عنه سنواتٌ وسنواتٌ؛ فترتاحُ إليه، وتشعرُ معه بأنه يقرأُ أفكارَك، ويجيبُ عن تساؤلاتِكَ قبلَ أنْ تسألَها!! كلُّ هذه المواقفِ ليس لها إلّا تفسيرٌ واحدٌ؛ وهو تلاقي الأرواحِ وتآلُفُها؛ مَهما اختلفتْ الظروفُ، باعدَتْ بينَها المسافاتُ.. وذلكَ مِصداقًا لقولِه _صلّى اللهُ عليه وسلّم “: _الأرواحُ جنودٌ مُجنَّدةٌ؛ ما تعارَفَ منها ائتلَف؛ وما تَنافَرَ منها اختلف”؛ وهذا ما يُجسِّدُه إتيكيت الروحِ.
فالأرواحُ حين تلتقي وتَتّفِقُ؛ يَجمعُها تَجانُسٌ عجيبٌ؛ وتساقُ لبعضِها البعضِ كما تُساقُ إلينا الأرزاقُ.