
حاضرة في مناسباتنا وتاريخنا وسهراتنا، إنها الدحية الفلسطينية فن من فنون التراث الأصيل العريق ليصطف الرجال بأجسادِهم .. رؤوسُهم تتمايلُ، وأياديهم تصفّقُ.. ألسِنتُهم تُردّدُ خلفَ شاعرٍ يعكسُ ما في جَعبتِه ارتجالاً، ويعبّرُ عن واقعِ شعبِه، ويتغنّى بأمجادِ عائلاتِه؛ ليقدّموا جميعاً صورةً تنضحُ فناً وثقافةً وتاريخاً، وتمتلئُ بهجةً وفرحاً وسروراً، يُحيوا معها إرثَ الآباءِ والأجدادِ، ويعزّزوا ثقافةَ فنٍّ قديمٍ من فنونِ الرقصِ الشعبيّ؛ وهي رقصةُ (الدحيّة) البدويةُ؛ حيثُ تحدثتْ “السعادة” مع فناني الدحيّةِ وجمهورِها؛ لتتعرّفَ معهم على أصولِها وطريقةِ أدائها، وحضورِها، وانتشارِها في الآوِنةِ الأخيرةِ.
الفنانُ “تيسير أبو سويرح” _صاحبُ فرقةِ “نشامة الباديةِ لإيحاءِ التراثِ البدوي”_ يقول : “إنّ رقصةَ “الدحيّة” من الرقصاتِ البدويةِ القديمةِ؛ وهي من أقدمِ الرقصاتِ الفلسطينيةِ على الإطلاقِ؛ حيثُ كانت تشتهرُ فيها منطقةُ شمالِ فلسطينَ والأردنُ، وبعضُ دولِ الخليجِ، ويقالُ أنهم كانوا يستخدمونَ هذه الرقصةَ لشَحذِ الهِممِ بين أفرادِ القبيلةِ قبلَ الحروبِ والمعاركِ، وفي نهايةِ الحربِ يرقصونَ “الدحيّة” ويصِفونَ في غنائهم المعركةَ وما دارَ فيها من بطولاتٍ ومواقفَ ومشاهدَ تدعو للمَفخرة”.
تحدثت السعادة مع رشاد المَدني” _محاضرٌ في قسمِ التاريخِ والآثارِ بالجامعةِ الإسلاميةِ_ قائلاً:” التراث الفلسطينيّ غنيٌّ بالفنونِ؛ كالدبكةِ الفلسطينيةِ بأنواعِها المختلفةِ، والرقصاتِ الشعبيّة التي تؤدّى في المناسباتِ والأعراسِ، ومن أبرزِ هذه الرقصاتِ رقصةُ “الدحيّة” التي تعودُ للتراثِ البدويّ؛ وهي نوعٌ من أنواعِ التراثِ الشعبي الفلسطيني؛ التي يشاركُ فيها شاعرٌ واحدٌ، وأحياناً شاعرانِ مع مجموعةٍ من الأشخاصِ الذين يردّدونَ خلفَ الشاعرِ، ويصفقونَ ويتمايلونَ.. وقد أصبحتْ “الدحيّةُ” اليومَ تؤدَّى في الحفلاتِ والأعراسِ، وسهراتِ الشبابِ؛ لِما تَحملُه من قيمةٍ ثقافيةٍ وتراثيةٍ أصيلةٍ؛ ليس من السهلِ التخلّي عنها؛ فهي موروثٌ ثقافيّ يجبُ التمسكُ به، وإحياؤه من جديدٍ لتعرِفَه الأجيالُ كلُّها.
وفي السيق تابع المَدني قائلاً: “يقالُ أنّ أولَ ما نشأتْ رقصةُ “الدحيّة”؛ نشأتْ في إحدى قوافلِ الحجاجِ قديماً؛ حيثُ كانوا قلّةً ورأوا لصوصاً يراقبونهم وهم نائمونَ؛ فأوجَسوا منهم خيفةً؛ واتفقوا أنْ يقوموا بالتصفيقِ وإصدارِ أصواتٍ كالجِمالِ؛ لكي يُخيّلَ للصوصِ أنهم كُثرٌ فيخشوهم ويبتعدوا عنهم، وفعلاً نجحوا في طردِ اللصوصِ بهذه الطريقةِ؛ ثم انتشرتْ “الدحيّة” كرقصةٍ شعبيةٍ في الباديةِ تؤدَّى بعدَ الحروبِ”.
في حين يوضح الفنان “سويرح” بأنّ رقصةَ “الدحيّة” وما يصاحبُها من شِعرٍ فيها معاني عديدةٌ ؛ تدعو إلى الاعتدادِ بالنفسِ، والنخوةِ، والرجولةِ، والقيَمِ الأصيلةِ، وقد انتقلتْ “الدحيّة” في السنواتِ القليلةِ الماضيةِ من المناطقِ البدويةِ إلى معظمِ المناطقِ الفلسطينيةِ من أقصى الشمالِ إلى أقصى الجنوبِ؛ وأصبحتْ فناً رائجاً في حفلاتِ الأعراسِ والمناسباتِ المختلفةِ.
تراث فني أصيل
يقول أ. “المدني” حديثَه:” إنّ “الدحيّة” ليست حركاتٍ تؤدَّى وحسبُ؛ بل تتضمنُ هذه الحركاتُ قصائدَ وأشعاراً؛ وهذا يجعلُها تندرجُ تحتَ قائمةِ التراثِ الثقافي، “فللدحيّة” أوزانٌ وألحانٌ خاصةٌ؛ وهي ليست عشوائيةً.. على الرغمِ من أنّ معظمَها يؤدّى بشكلٍ ارتجاليٍّ؛ ولكنه ليس عشوائياً، حيثُ يتطرّقُ المؤدّي لمواضيعَ مختلفةٍ؛ منها الدينيةِ والوطنيةِ والاجتماعيةِ، وأبرزِ القضايا المستجدةِ.
وعن كيفيةِ أدائها يقولُ سويرح: “إنّ الطريقةَ التي تؤدَّى فيها “الدحيّة” القديمة الأصلية، والتي نُطلقُ عليها اسمَ “الدحيّة” البلديةِ؛ كانت تؤدَّى بدونِ موسيقى، وفي مكانٍ مُعتِمٍ ليلاً بدونِ إضاءةٍ؛ ولكنها تطورتْ فدخلتْ عليها الإيقاعاتُ الموسيقيةُ؛ وهي إجمالاً تؤدَّى بشكلٍ جماعيٍّ؛ حيثُ يصطفُّ الرجالُ بصفٍّ واحدٍ أو صفَّينِ متقابلَينِ؛ ويغني الشاعرُ الواقفُ في منتصفِ أحدِ الصفّينِ قصيدتَه، ويتغنَّى بها.. ومن الممكنِ أنْ يكونا شاعرَينِ اثنَينِ، وتسمّى قصيدةُ “الدحيّة” بالبَدعةِ، ويسمّى شاعرُ “الدحية” بالبدّاعِ، ويردّد الصفّانِ بالتناوبِ ويسمونهم الردّادة؛ حيثُ أنّ أبياتِ الشعرِ الملقاةَ يكونُ متفَقٌ عليها سلَفاً، وفي بعضِ الأحيانِ يتواجدُ الشاعرُ بين الصفّينِ في المنتصفِ؛ يتنقلُ بينهم أثناء أداءِ الرقصةِ، وتتنوعُ القصائدُ بين المدحِ والفخرِ والهجاءِ، وبين الذِّكرِ والحمدِ والثناءِ على اللهِ، كما تؤدَّى أيضاً بأسلوبٍ قصصيٍّ سَرديٍّ لمعركةٍ ما، أو وصفٍ لديارٍ، أو مدحٍ لقبيلةٍ معيّنةٍ. وحركاتُ رقصةِ “الدحية” تأتي في آخِرِ القصيدةِ، ويتمُ استخدامُ التصفيقِ كلَونٍ إيقاعيّ، وتتميزُ “الدحية” بالحماسِ في أدائها الحركي، ويتطلبُ للمشارِكِ فيها أنْ يوفِّقَ بين أدائهِ الحركيّ والتنفسيّ؛ حتى يتمكنَ من مجاراةِ باقي المشاركينَ “.
في المناسبات والمهرجانات
في حين يُرجعُ “سويرح” سببَ حضورِ “الدحية” في أغلبِ المناسباتِ والمحافلِ قائلاً: “إنّ القصائدَ التي يؤديها البديعُ؛ هي قصائدُ ارتجاليةٌ تعبّرُ عما يجولُ في نفسِه، وما يدورُ في خلجاتِه بطريقةٍ إبداعيةٍ وعفوية؛ ما يجعلُ البديعَ يلقي شِعرَه حولَ العديدِ من الموضوعاتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ؛ خصوصاً أنّ القضيةَ الفلسطينيةَ قضيةٌ مليئة بالأحداثِ والقضايا؛ مِثلَ قضيةِ الأسرى والقدسِ والعودةِ، وهذا ما جعلها حاضرةً في مسيراتِ العودةِ بقوةٍ؛ لأنها تعدُّ من الفنونِ التي تعبّرُ عن واقعِ الحالِ وقضايا الشعبِ بطريقةٍ قريبةٍ للناسِ، كما أنها تتناسبُ مع المواضيعِ الحماسيةِ والنضاليةِ التي تدعو لها مسيراتُ العودةِ بشكلٍ سلمي”. ويرى “عبد الله نطّط” _أحدُ المشاركينَ في مسيراتِ العودةِ_ بأنّ مشاركةَ “الدحية” في هذه المسيراتِ يعدُّ رسالةً مهمّة بأننا لم ولن ننسى تراثَ الأجدادِ الذي بدأ في أراضينا المسلوبةِ خلفَ ذلك السلكِ الحدودي الزائلِ؛ فهذا إثباتٌ لأحقيَّتِنا بتلك الأرضِ وبتاريخِها وثقافتِها وفنونِها.
حتى لا تندثر
وعن الأسبابَ التي ساعدتْ على انتشارِ ورواجِ “الدحية” يقول “سويرح” :”إنّ العفويةَ والارتجالَ الذي تشتهرُ به “الدحية” أدَّى إلى إقبالِ شريحةٍ كبيرةٍ على هذا الفنِّ والتعاملِ معه؛ لأنه من الحياةِ اليوميّةِ لأبناءِ الشعبِ الفلسطينيّ؛ يسردُ قصصَه ومعاناتِه، ويعبّرُ عن تاريخِه؛ فهو إرثٌ ثقافيٌّ وفنيٌّ، كما أنّ الفلسطينيينَ يحرصونَ على توريثِ فنونِهم الشعبيةِ من جيلٍ إلى آخَرَ؛ خوفاً عليها من الطمسِ والضياعِ، وحفاظاً على هُويتِهم من الاندثارِ”.
في لقاء مع محمود النويري” _من أصولٍ بدويةٍ، ومن مُحبّي هذا التراثِ_ بأنّ “الدحية” ليست فناً وحسبُ؛ بل هي ثقافةٌ وتاريخٌ، وعلى الرغمِ من قِدمِه إلا أنه انتشرَ في الآوِنةِ الأخيرةِ بسببِ التحديثاتِ التي طرأتْ على “الدحية”؛ فصارت فناً تراثياً يربطُ بين القديمِ والمُعاصرِ، وأصبحتْ تؤدَّى بطريقةٍ إبداعيةٍ وحديثةٍ متناسبةٍ مع الحفلاتِ؛ حيث تحتوي على الموسيقى.. كما أنّ الديكورات المصاحبةَ للرقصةِ في الاحتفالاتِ تعدُّ ديكوراتٍ تراثيةً تحتوي على بيتِ الشَّعرِ، أو الخيمةَ البدويةَ، كما لا تخلو من الخيولِ والجِمالِ، وفيها تنوعٌ وجَمالٌ، وتعدُّ حفلاتُ “الدحية” من أمتعِ الحفلاتِ وأكثرِها فخامةً ورُقيّاً.
ويبين “سويرح” بأنّ “الدحية” اليومَ تحلُّ مَحلَّ الحفلاتِ الماجنةِ، وجعلتْ من الشبابِ وكبارِ السنِّ يستمتعونَ بالحفلاتِ الشبابيةِ داخلَ جوٍّ من المَديحِ والشكرِ للهِ، ومن ذِكرِ صفاتِ عائلةِ العريسِ ومدحِ أخلاقِه هو وأهلُه في أجواءٍ تراثيةٍ قريبةٍ للمجتمعِ ومناسِبةٍ مع عاداتِ وتقاليدِ شعبِنا المناضلِ، ومناسبةٍ لجميعِ الفئاتِ العمريةِ، وكافةِ الأطيافِ الفلسطينية، حيثُ أصبح لا يمرُّ فرحٌ أو مناسبةٌ إلا وكانت الدحيّة حاضرةً.. وهذا يدلُّ على التمسكِ بالتراثِ والأصالةِ مع بعضِ الإضافاتِ الحديثةِ، خاصة من ناحيةِ الآلاتِ الموسيقيةِ التي لم تكنْ موجودةً سابقاً؛ ما أدّى إلى المزجِ بين القديمِ والحديثِ.
“الدحية” ليست إرثَ القبائلِ البدويةِ فحسب؛ بل هي إرثٌ ثقافيّ وفنيّ لكُل الفلسطينيينَ بجميعِ طوائفِهم، وأنّ انتشارَ هذا الإرثِ الثقافي والفني؛ ساعدَ على عدمِ اندثارِه، حيثُ يؤكدُ “سويرح” بأنّ إحساسَ الشعبِ الفلسطينيّ بقيمةِ التراثِ، والبعدِ الوطنيّ، والتاريخِ، والانتماءِ للفنِّ الشعبيّ، ورغبتَه في تعزيزِ الهويةِ الفلسطينيةِ، وانتماءَه لهذا الوطنِ وقضيتِه؛ هو مصدرُ بقاءِ الإرثِ الثقافيّ والفنيّ لأيِّ فنٍّ شعبيٍّ، وهو سرُّ بقائهِ.