
بيوتٌ تروي قصةَ حضاراتٍ وحقَبٍ مرّتْ عليها، وأثّرتْ في ملامحِها، وشكّلتْ عمارتَها، وزخرتْ بعناصرِها الفنيةِ والمعماريةِ، وعجّتْ بتفاصيلِها الزخرفيةِ، وكتاباتِها العربيةِ، فتركتْ عناصرَ معماريةً ارتبطتْ بالعهدَينِ “المملوكي والعثماني” اللذينِ حملا اسمَ طرازِها المعماري، ويبقى هذا الطرازُ بكُل ما يَحملُه شاهداً على أحقيَّتِنا في هذه الأرضِ، لتُمثلَ إرثاً حضارياً وثقافياً وقيمةً جماليةً، ويعدُّ هويةً تاريخيةً فلسطينيةً. تتجولُ “السعادة” بين جنباتِ هذه البيوتِ لتسلّط َالضوءَ على أهم العناصرِ والملامحِ المعماريةِ، وتحدّثتْ مع خبراءَ ومَعنيّينَ لمعرفةِ واجبِنا ومسؤوليتِنا تُجاه هذا الإرثِ الحضاري والتاريخي.
توضّحُ هيام البيطار _مديرةُ قسمِ الدراساتِ والأبحاثِ في وزارةِ السياحةِ والآثار_ قائلةً: “إنّ عددَ البيوتِ الأثريةِ الموجودةِ في قطاعِ غزة (134) بيتاً، موزّعةً على حيِّ التفاحِ والشجاعيةِ، وحيّ الدرَجِ، وحيِّ الزيتونِ، ولكنّ معظمَ هذه البيوتِ تتمركزُ في البلدةِ القديمةِ وسطَ قطاعِ غزة، حيثُ لا يقِلُّ عُمرُ هذه البيوتِ عن (180 )سنة، كما أنّ أغلبيّتَها تعودُ للعهدِ العثماني، ومن الجديرِ بالذكرِ أنّ هناك مجموعةً من البيوتِ الأثريةِ غيرُ معتمَدةٍ ضِمنَ هذه الإحصاءاتِ؛ والسببُ أنّ أصحابَها أجروا عليها تعديلاتٍ وبناءً وإضافاتٍ، فلم تَعدْ أثريةً خالصةً”.
عظمةِ فنونِ العمارةِ
تشرحُ المهندسةُ نشوَى الرملاوي _منسّقةُ مشاريع الترميمِ في مركزِ إيوانِ التراث_ بأنّ البيوتَ الأثريةَ التي ما زالت موجودةً في قطاعِ غزة؛ تعودُ للعَهدينِ “المملوكي والعثماني”، وهما آخِرُ حُكمينِ تَعاقبا على غزةَ قبلَ الانتدابِ البريطاني، والتي شهدَ على عظمةِ فنونِ العمارةِ في تلكَ الحقبةِ، ومن أهمِّ وأشهرِ البيوتِ الأثريةِ التي تقعُ في البلدةِ القديمةِ بيتُ السقا، وبيتُ العلَمي، وبيتُ الباشا، وبيتُ الخضري، وبيتُ أبو رمضان والعشي، حيثُ تعدُّ هذه البيوتُ ثروةً تاريخيةً وثقافيةً مهمةً، تزخرُ بالتراثِ المعماري العثماني والمملوكي، وتمتلئُ بالتفاصيلِ والزخارفِ والكتاباتِ والعناصرِ المعماريةِ التي تجعلُ من كلِّ بيتٍ مُتحفاً ومزاراً بحدِّ ذاتِه، ويرى الدكتور “أحمد محيسن” _مديرٌ سابقٌ لمركزِ عمارةِ التراثِ بالجامعةِ الإسلامية) بأنه على الرغمِ من أنّ هذه البيوتَ تحملُ اسمَ عائلاتٍ معيّنةٍ، وتعدُّ مُلكيةً فرديةً لها؛ إلّا أنها تمثلُ إرثاً حضارياً وثقافياً لكُل الغزيّينَ، بل وهُويةً تاريخيةً لكُلِّ الفلسطينيينَ، وقيمةً لا تقدّرُ بأيِّ ثمنٍ، قيمةً جماليةً، وقيمةً حضاريةً، قيمةً تاريخيةً وثقافيةً لا بدَّ أنْ يعرِفَها المجتمعُ.
دهليز
وعن أهمِّ الملامحِ والعناصرِ المعماريةِ التي تزخرُ بها البيوتُ العثمانيةُ والمملوكيةُ في غزةَ القديمةِ، تتحدثُ م. الرملاوي قائلةً: “كلُّ ركنٍ في بيوتِ غزةَ القديمةِ يروي حكايةً؛ حيثُ يزخرُ بالتفاصيلِ والعناصرِ المعماريةِ، ومن أهمِّ هذه العناصرِ (الدهليز)؛ وهو عبارة عن مدخلٍ ضيّقٍ مُعتِمٍ؛ له سقفٌ مقوّسٌ يوصلُ إلى فناءِ البيتِ وحجراتِه، ويوجدُ بشكلٍ واضحٍ في بيتِ العلَمي، أمّا (المزيَرة) فهي من التفاصيلِ المنتشرةِ في البيوتِ الأثريةِ؛ وهي عبارة عن تجويفٍ عميقٍ داخلَ الحائطِ؛ يستخدمُ للاحتفاظِ بالماءِ، ففي كل يومٍ يأتي السّقا الذي يبيعُ الماءَ، ويملأ المزيَرة فهي مِثل خطوطِ المياهِ الممتدةِ في وقتِنا الحاضر، كما لا يمكنُ التحدثُ عن ملامحِ العمارةِ العثمانيةِ والمملوكيةِ دونَ التطرّقِ إلى (الإيوان) والذي يبدو كغرفةٍ ترتفعُ عن الفناءِ؛ وتتكونُ من ثلاثةِ جدرانِ؛ أمّا الجدارُ الرابعُ مفتوحٌ مزيّنٌ بأقواسٍ كبيرةٍ؛ تطلُّ على فناءِ المنزلِ، ومعظمُ البيوتِ الأثريةِ في غزة تحتوي على الإيوانِ؛ فهو أهمُّ عناصرِ العمارةِ الإسلاميةِ وأبرزُها”، ويرى م. “محيسن” أنّ ما يميّزُ جدرانَ المنازلِ الأثريةِ سماكةُ جُدرانِها الذي يقاربُ المتر، وهذا ما يجعلُ استغلالَه ممكِناً من خلالِ تجويفٍ في الجدارِ سمّاه العثمانيون بـ (اليوك)؛ والذي يُستخدمُ لحفظِ الفراشِ والحاجياتِ، هذا بالإضافةِ إلى النقوشِ الهندسيةِ والنباتيةِ والآياتِ القرآنيةِ التي تزينُ العقودَ والأقواسَ وتيجانَ الأعمدة، ويرى الأستاذ “عاطف سلامة” _أحدُ قاطني البيوتِ الأثريةِ_ بأنّ العيشَ في بيئةٍ غنيةٍ بهذه العناصرِ والملامحِ الفنيةِ والعمرانيةِ؛ يبعثُ السرورَ والبهجةَ والفخرَ بحضارةِ الأجدادِ، كما أنّ البناءَ التقليدي القديمَ يتميّزُ بالتناغمِ مع الجوِّ المحيطِ، فسماكةُ الجدرانِ ونوعيةُ الموادِ المستخدمةِ في البناءِ؛ تسمحُ بجعلِ جوِّ الصيفِ بارداً ومنعشاً، وجوِّ الشتاءِ دافئاً، كما أنّ نوافذَ الغرفِ المُطلةَ على فناءِ المنزلِ تنقلُ النسيمَ العليلَ في أيامِ الصيفِ الحارةِ إلى دواخلِ الغرفِ، ويعدُّ “سلامة” أنه ليس هناك أجملُ من الجلوسِ أمامَ البحرةِ القابعةِ في منتصفِ الفناءِ، واحتساءِ فنجانِ القهوةِ مع الأحبةِ والأهلِ والأصدقاءِ.
إرث حضاري
وعن المشاكلِ التي تعاني منها هذه المنازلُ تشرحُ م. الرملاوي قائلة:” إنّ الهدمَ والإزالةَ لهذه المباني والبيوتِ مِن قبلِ أصحابِها؛ من أهم المشاكلِ التي تهدّدُ الآثارَ لرغبتِهم في إنشاءِ محلاتٍ تجارية، أو عملِ توسّعاتٍ رأسيةٍ، بالإضافة إلى عوامل التعرية، وإساءة الاستخدام لهذه المباني سواء باستخدامها لوظائف غير المناطة بها، كاستعمالِهم كمخازنَ أو محالٍّ تجاريةٍ، كما أنّ الترميمَ الخاطئ من المشاكلِ التي تهدّدُ البناءَ الأثري للمنطقةِ، كاستخدامِ الإسمنتِ، والبلاطِ، وموادِ البناءِ الحديثة، في حين أنّ هذه المباني تحتاجُ لموادٍ معيّنةٍ تلائمُ البناءَ الأثري؛ كالحجرِ الرملي الذي يحتاجُ إلى تهويةٍ باستمرار، هذا بالإضافةُ إلى هجرِ المنازلِ من قبلِ أصحابِها، إمّا لسفرِهم خارجَ البلادِ، أو انتقالِهم إلى مناطقَ أخرى، ويرى م. “محيسن” أنّ الزحفَ العمراني كان له أكبرُ الأثرِ في طمسِ الكثيرِ من المعالمِ الأثريةِ المهمةِ في البلدةِ القديمة، كما أنّ قِلةَ الاهتمامِ والصيانةِ تؤدي إلى تفاقمِ الوضعِ في المباني؛ حيثُ تكونُ بيئةً خصبةً لنموِّ النباتاتِ التي تضرُّ بالمبنى مُسبِّبةً التشققاتِ، وتآكُل الأحجارِ، وقد تتسعُ هذه التشققاتُ مع الزمنِ؛ وتؤدي إلى انهيارِه، كما أنّ الزواحفَ والقوارضَ تحفرُ وتعششُ داخلَ هذه المباني؛ ما يضرُّ بأساساتِه، وتؤدي إلى هبوطِ أجزاءٍ كبيرةٍ من المبنى، ولا نستطيعُ أنْ نستثنيَ البيوتَ الأثريةَ التي تمَّ تدميرُها أثناء الحروبِ، بالأخصِّ في حيّ الشجاعيةِ، وتضيفُ م. “الرملاوي” بأنّ مركزَ “إيوان” التابع للجامعةِ الإسلاميةِ أشرفَ على ترميمِ العديدِ من البيوتِ الأثريةِ منها: بيتُ العلَمي، وبيتُ أبو شعبان، وبيتُ العشي، وهذا أقلُّ ما يمكنُ تقديمُه تُجاهَ هذه القيمةِ التاريخيةِ والثقافيةِ التي يجبُ أنْ تُصانَ.
إعادة إعمار
ولكنْ مع كلِّ هذه المخاطرِ والتهديداتِ، مَن المسؤولُ عن عمليةِ الحفاظِ على هذا الإرثِ الحضاري والثقافي؟ وهل هناك من خطواتٍ عمليةٍ لهذا الحفاظِ؟ تجيبُ “البيطار” عن هذه التساؤلاتِ قائلةً: “تُعدُّ وزارةُ السياحةِ والآثارِ هي الجهةُ الرسميةُ المسؤولةُ عن هذه المباني، وتقومُ بمشاريعِ الترميمِ والصيانةِ الدوريةِ للمواقعِ والبيوتِ الأثرية، وتتعاونُ مع جهازِ الشرطةِ لتنفيذِ العقوباتِ بحقِّ المتعدّينَ على الحقِّ العام، الذين يتصرّفونَ بشكلٍ لا مسئولٍ تُجاه هذا الإرثِ الحضاري، ولكنّ احتياجات هذه المواقعِ الأثريةِ تفوقُ إمكاناتَ الوزارةِ البشريةَ والمالية؛ ولذلك تعتمدُ الوزارةُ في مشاريعِها على التمويلِ الخارجي من قِبلِ المؤسساتِ الدوليةِ، أو المؤسساتِ المحليةِ، ويرى م. “محيسن” أنه على المؤسساتِ المدنيةِ المهتمةِ بالتراثِ والثقافةِ، ورجالِ الأعمالِ والمتخصّصينَ واجبٌ وطنيّ للمساهمةِ في إعادةِ إعمارِ هذه المباني للحفاظِ على الهويةِ الفلسطينيةِ المهدّدةِ من قِبلِ الاحتلالِ الصهيوني، كما عليها دورٌ في عقدِ الندواتِ ووُرشِ العملِ لتوعيةِ المجتمعِ بالأهميةِ التاريخيةِ والحضاريةِ والاقتصاديةِ لهذه المباني، ويجبُ على أصحابِ القرارِ في المجلسِ التشريعي سنُّ القوانينِ والتشريعاتِ لحمايةِ هذه المنازلِ، والسعيُ الحثيثُ لتطبيقِ القوانينِ، وخاصةً في غيابِ الوعي الذاتي للمجتمعِ بأهميةِ الآثارِ، ووضعُ العقوباتِ اللازمةِ الرادعةِ لكُل مَن يتعدّى عليها.
ويوصي م. محيسن قائلاً: ” حفاظُنا على هذا التراثِ هو ترسيخٌ لوجودِنا على هذه الأرضِ، وهي إحدى حلقاتِ الصراعِ مع الصهاينةِ، ونوعٌ من ردِّ الجميلِ لأجدادِنا الذين ضحّوا من أجلِ أنْ يتركوا لنا هذا الإرثَ القيّمَ، وحملُ الأمانةِ يتطلبُ منا ذلك، وإنّ أقلَّ ما يمكنُ تقديمُه تُجاهَ هذه البيوتِ الأثريةِ؛ هو الإحساسُ بالقيمةِ الثقافيةِ، والوعيُ بالأهميةِ الحضاريةِ لها؛ كونَها الشاهدَ الحقيقَ على تاريخِنا” .