
تقرير : السعادة
الفنُّ الإسلاميّ مصدرٌ مُهمٌ، وتراثٌ إنسانيٌّ غنيٌّ بالقِيمِ، حيث تعدُّ الزخارفُ والنقوشُ والكتاباتُ أحدَ أهمِّ هذه الفنونِ ويتفرد بدِقة التصاميمِ، وثراءٌ بالتفاصيلِ، قوةٌ في الخطوطِ والزوايا، ورشاقةٌ في المُنحنياتِ، فهُنا أغصانٌ تلتفُّ حولَ أبياتٍ من الشعرِ، وهناك زهراتٌ تتناثرُ بين كلماتِ آيةٍ قرآنية، وتلك أشكالٌ هندسيةٌ تتعانقُ مع حكمةٍ مأثورة، خطوط ٌ تُرسمُ بالريشةِ والحِبرِ على صحائفِ الجلدِ العتيق، تُنحتُ بالصخرِ، أو تُنسجُ من الحريرِ لتَنثُرَ عَبقَ الزمنِ الماضي الجميلِ، فتُذكِّرُنا بثراءِ القصورِ العثمانية، وفخامةِ العمارةِ الأمويةِ، وأصالةِ الفنِّ العباسيّ والمملوكي، وفي المقابلِ خطوطٌ وكتاباتٌ تشكَّلُ بموادٍ أخرى، وتُنفّذُ بطريقةٍ مثلَى، تصاغُ بأسلوبِ حياةٍ عصريٍّ، تَحملُ قدراً كبيراً من الحداثةِ، ولكنها لا تتجرّدُ من الأصالةِ. “السعادة” تكشف مرونةَ الزخارفِ والنقوشِ الإسلاميةِ، واستخداماتِها العصريةَ مع نخبةٍ من المُصمِّمينَ والمهندسينَ وعلماءِ التاريخِ.
تميّزتْ الزخارفُ الإسلاميةُ، وتفرّدتْ بأسلوبٍ وطريقةٍ في التنفيذِ، خاضعةً لقواعدَ وأصولٍ هندسيةٍ، وتتحدثُ المهندسةُ المعماريةُ “رزان أبو ديّة” عن هذه القواعدِ قائلةً: “تلك القواعدُ والأصولُ الهندسيةُ؛ هي التي جعلتْ الزخارفَ مرتبطةً بالفنِّ الإسلاميّ، فقد وضعَ المسلمونَ بَصمتَهم الواضحةَ التي تعكسُ مدَى رُقيِّ وحضارةِ الحقبةِ الإسلاميةِ بكلِّ فتراتِها، وقد أُخذتْ هذه القواعدُ من الطبيعةِ المحيطةِ.
وتذكُرُ لنا هذه الأُسسَ قائلةً:” يُعدُّ التناظرُ والتماثلُ في الوحدةِ الزخرفيةِ من الأُسسِ المُهمةِ، والتوازنِ في التكوينِ الزخرفيّ الكُليّ، وكذلك التناسبُ والتكرارُ في عناصرِ الزخرفةِ، وما يميّزُ الزخارفَ الإسلاميةَ هو التداخلُ مع الآياتِ القرآنيةِ، والحِكمِ المأثورةِ، وأبياتِ الشِعرِ، بينما في المقابلِ أتى مُصمِّمو اليومِ ليُدخلوا هذه الوحداتِ الزخرفيةِ؛ ولكنْ بطريقةٍ حُرّة، وأحياناً عشوائيةٍ، فتبدو عصريةً تتناسبُ مع أسلوبِ الحياةِ السريعِ، وقِطعِ الأثاثِ الحديثةِ والموادِ المُبتكَرةِ، حيثُ أنها لا تخضعُ لقواعدِ وأُسُسِ الزخارفِ التقليديةِ، ولكنها تحافظُ على النِسبِ المريحةِ والتوازنِ العامِّ في الزخرفةِ العصريةِ”.
ويتحدّثُ “رشادالمدني” _المُحاضرُ في قِسمِ التاريخِ الشفويّ بالجامعةِ الإسلاميةِ_ عن هذا الفنِّ قائلاً: “لِنكُنْ مُنصِفينَ لهذا الفنِّ الراقي الرائعِ، فالزخارفُ والنقوشُ رافقتْ الإنسانَ منذُ ما قبلَ التاريخِ، فهي ليست حِكراً على المسلمينَ، رغمَ تميُّزِهم وإبداعِهم وتقدُّمِهم في مجالِ الزخرفةِ والنقشِ، وممّا لا شكَّ فيه أنها مِرآةُ الحضاراتِ لدَى الشعوبِ، فهي تعكسُ نُظمَ الحياةِ والمعيشةِ والعاداتِ والتقاليدِ، وهي إحدى وسائلُ معرفةِ تاريخِ الأممِ السابقةِ، ومدَى تَطوُّرِهم وتَعمُّقِهم الفكريّ والمعرفيّ والدينيّ، كما ويقيسُ درجةَ تَحضُّرِهم”
متطلباتِ العصرِ
وتَبقى خطوطُ الزخارفِ _المُستوحاةُ من الطبيعةِ، ومن عِلمِ الهندسةِ_ هي خطوطٌ مَرِنةٌ، حيثُ ترى مُصمِّمةُ الديكورِ الداخلي، المهندسةُ “هِبة صبيح” أنّ الزخارفَ قابلةٌ للتدويرِ والتحويرِ،والإضافةِ والحذفِ ،والتطويلِ والتقصيرِ، وخصوصاً في كتاباتِ الخطِّ العربيّ فهي تَحملُ من المرونةِ والليونةِ؛ ما يجعلُها مناسِبةً لكلِّ زمانٍ.
وتقولُ :” يعودُ الأمرُ إلى المُصمِّمِ؛ فيُشكّلُها كيفَما تتواءَمُ مع متطلباتِ العصرِ، كما أنها لا تقتصرُ على مادةٍ محدّدةٍ لتنفيذِها، ولا ألوانٍ مُعيّنةٍ، وهذا يجعلُها في غايةِ المرونةِ، وفي المقابلِ فإنّ الزخارفَ عملٌ فنيّ راقٍ ومُتقَنٌ ودقيقٌ، ما يجعلُها تحفةً فنيةً، حيثُ يمكنُ تصميمُ ركنٍ جانبيّ عندَ مدخلِ المنزلِ، أو بجوارِ غرفةِ المعيشةِ، أو داخلَ غرفةِ النومِ، بدونِ تحويراتٍ أو تحديثاتٍ، لتُضفي على المنزلِ الحديثِ لمسةً تقليديةً غيرَ مُحوَّرةٍ، وهذا أحدُ الأساليبِ التي يَتبِعُها بعضُ المُصمِّمينَ؛ لكسرِ حدّةِ التصميمِ الحديثِ.
فيما يعتقدُ أ.”المَدني” بأنّ زخرفةَ القرنِ الواحدِ والعشرينَ، هي زخرفةٌ خاصةٌ بهذا الزمانِ، وليست منقولةً من زمانٍ آخَرَ، مع قليلٍ من التحويراتِ والتعديلاتِ ويقول: “الزخرفةُ كما قلتُ سابقاً هي مرآةُ الشعوبِ، ومن الطبيعيّ أنْ يكونَ للزمنِ الحديثِ زخرفتُه الخاصةُ به، والتي تعكسُ مدَى تطوُّرِه في مجالِ الفنِّ والفكرِ، وتدلُّ على معرفتِه الثقافيةِ والدينيةِ والحضاريةِ”.
ثورةً على التقليدية
وعن اللمساتِ التي يمكنُ من خلالِها تحويرُ الزخارفِ ذاتِ الطابعِ التقليديّ، إلى زخارفَ عصريةٍ تناسبُ طرازَ المنازلِ الحديثةِ، تقولُ م. صبيح: “تَكمنُ اللمساتُ العصريةُ في البساطةِ وقِلّةِ التفاصيلِ، ومن هنا فإنّ مُصمِّمي الديكورِ يفضّلونَ تجريدَ الزخارفِ التقليديةِ، وتبسيطَها قدْرَ الإمكانِ؛ لتناسبَ صيحاتِ العصرِ، كما يَعمدُ المهندسونَ على رسمِ الزخارفِ التي تحتوي على الحروفِ العربيةِ بخطٍّ حُرٍّ، ولا يفضّلونَ استخدامَ أنواعِ الخطوطِ المعروفةِ، “كالكوفيّ والثُلثِ والأندلسيّ” وما شابَه، فالخروجُ عن القواعدِ والقوانينِ؛ يُعَدُّ ثورةً على القديمِ التقليديّ، وهذه الطريقةُ هي الأكثرُ شيوعاً عندَ مُصمِّمي الزخارفِ الحديثةِ”.
وتوضّح م. “أبو ديّة” أنّ اللمساتِ الحديثةَ يمكنُ أنْ تُضافَ على الزخارفِ القديمةِ؛ باستخدامِ موادٍ وخاماتٍ حديثةٍ، وألوانٍ مغايرةٍ لِما كان يُستخدمُ في العصورِ الأمويةِ والعباسيةِ والمملوكيةِ، فاستخدامُ ذاتِ الخطوطِ والنقوشِ التقليديةِ بخاماتٍ لم تكنْ في تلكَ العصورِ؛ يضفي عليها قدْراً كبيراً من الحداثةِ، مع الاحتفاظِ بالأصالةِ، كما أنّ قِطعَ الأثاثِ تغيّرتْ، والاستخداماتِ تطوّرتْ، فلماذا لا تُواكِبُ الزخرفةُ هذا التطورَ؟ كأنْ يَتمَّ استخدامُ الزخارفِ على الديكوراتِ الخشبيةِ، ووحداتِ الإنارةِ، وأوراقِ الجدرانِ، وباستخدامِ الدهاناتِ، وعلى المفروشاتِ والستائرِ، كلُّ هذا سيُضفي أصالةً على الأثاثِ الحديثِ.
قمة الرقي
في حين يَعُدُّ أ. “المَدني” أنّ الزخارفَ في العهودِ الإسلاميةِ وصلتْ إلى قمّةِ الفنِّ، خصوصاً ما استُخدمَ في المباني والتصاميمِ الداخليةِ للفراغاتِ في القصورِ والمساجدِ، ويقولُ: “للأسفِ الشديدِ فإنّ العربَ الشرقيِّينَ يرَونَ في الزخارفِ تقليداً قديماً مكانُه المُتحفُ أو المسجدُ، وفي المقابلِ فإنّ الغربَ يحترمونَ هذا الفنَّ، ويسعَون جاهدينَ للحصولِ على رسمٍ زُخرفيّ، أو لوحةٍ أو ثوبٍ مزخرَفٍ؛ يرونَ فيه قمّةَ الفنِّ والحضارةِ، وقد شهِدَ الفنانُ العالميّ “بيكاسو” للزخرفةِ والخطّ العربيّ في مقولتِه الشهيرةِ: (إنّ أقصَى نقطةٍ أردتُ الوصولَ لها؛ وجدتُ الخطَّ العربيّ سبَقَني إليها)”.
وتُعرِبُ م. “أبو ديّة” عن فخرِها بهذا الفنِّ الذي تنتمي إلى موطنِه وأصلِه وتقولُ: “لا بدَّ من الفخرِ بالتصميمِ ذي النكهةِ العربيةِ، بل على العكسِ جعلَ الغربَ يقلّدُ هذا الفنَّ الأصيلَ العصريَّ، وجعلَه بصمةً خاصةً تُجمّلُ منازلَنا، فتَجمعُ بينَ الأصالةِ والمُعاصَرةِ في تصميمٍ واحدٍ، لنحصلَ على دواخلَ غنيةٍ بالتفاصيلِ، ومتقنةً في التنفيذِ، ومُفعَمةً بالجمالِ، وكلُّ هذا في إطارٍ عصريٍّ حديثٍ”.
وممّا لا شكَّ فيه؛ أنّ الزخارفَ والنقوشَ قد فرضتْ نفسَها في زمانِنا هذا، واحتلّتْ جُزءاً كبيراً من عقولِ المُصمِّمينَ، لتتربّعَ على عرشِ الحداثةِ بأصالةٍ، كما أنّ مُصمِّمي اليومِ يتنافسونَ في استخدامِ هذه الزخارفِ والنقوشِ، ويبتكرُ كلُّ واحدٍ منهم الأساليبَ والطرُقَ؛ ليقدِّموا تصميماً عصرياً بطابعٍ عربيٍّ شرقيٍّ، يحملُ من الأصالةِ والجمالِ والإتقانِ، ما يجعلُنا نعيدُ التفكيرَ مَلِيّاً في الزخرفةِ التقليديةِ القديمةِ، فليس زمانُها زمنَ الأمويينَ والعباسيينَ، ولا مكانُها مُتحفاً تاريخياً قديماً، بل يمكنُ للإبداعِ أنْ يُحيلَ منها صيحةً عصريةً بنَكهةٍ شرقيةٍ.