
تحقيق/ السعادة
تزامناً مع التغيُّراتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والتربويةِ، مع مشاهدةِ الأبناءِ للعالمِ من خلالِ شاشةٍ صغيرةٍ؛ تتَجلَّى في محطاتِ اليوتيوب التي تَعرضُ لهم رغدَ الحياةِ؛ وتَنقلُهم من مُجردِ أطفالٍ إلى مستهلكينَ؛ لا يَعرفونَ قيمةَ المالِ، ويطلبونَ توفيرَ كلِّ ما تُشاهِدُه أعينُهم من أدواتٍ وألعابٍ واحتياجاتٍ وأطعمةٍ.
لذا بات من الضروري تربيةُ وتوجيهُ الأبناءِ على زيادةِ الوعيِ والتثقيفِ بقيمةِ النقودِ؛ ليُضيفوا ويُصَحِّحوا، وليَنقلوا أسلوبَ الحياةِ الاقتصادي الواعي إلى أجيالٍ ستساهمُ بشكلٍ كبيرٍ وفعّالٍ في دعمِ مستقبلِهم الاقتصادي على الأقلِّ. وكثيراً ما يواجِهُ أولياءُ الأمورِ مشاكلَ متنوعةً مع أطفالِهم في الحياةِ اليوميةِ؛ كالعنادِ والبكاءِ الدائمِ، والمشاكسةِ والعصيانِ والشقاوةِ؛ في سبيلِ الحصولِ على ما يريدونَ من مالٍ؛ ومن هنا تنمو العاداتُ الاستهلاكيةُ المُسرفةُ عندَ الأطفالِ، والتي هي بحاجةٍ ماسّةٍ إلى ضبطٍ ورقابةٍ شديدَينِ، وإلى تعديلِ مسارٍ.
سلوكياتٌ خاطئةٌ
“السعادة” استطلعتْ آراءَ بعضِ الآباءِ حولَ مطالبِ الأبناءِ؛ ولماذا يستسلمونَ أمامَ مطالبِهم المختلفةِ، إذْ أجمعَ عددٌ منهم أنّ أبناءَهم يشعرونَ بالنقصِ عندما يجدونَ أطفالاً آخَرينَ يمتلكونَ مبالغَ كثيرةً، أو ألعاباً مختلفةً، وفي هذا الإطارِ يَعمَدونَ لا إرادياً إلى مجاراةِ ذلك؛ بمَنحِ أبنائهم مبالغَ مماثِلةً حتى لا يصبحَ هناك مقارناتٌ في المستوى المعيشي، أو مَرتعٌ للحسدِ والغيرةِ، أو حتى لا تدفعَ أبناءَهم إلى ارتكابِ سلوكياتٍ خاطئةٍ كالسرقةِ أو التمارضِ في سبيلِ ذلكَ في حالِ عدمِ تلبيةِ مطالبِهم، في الوقتِ الذي يرى من حولَه من الأطفالِ غارقينَ في الإسرافِ.
حيثُ أكّدوا بأنّ ذلك ليس جهلاً منهم؛ بقَدرِ ما هو شعورٌ عارمٌ بالمحبةِ لأبنائهم، عندما يشعرونَ بأنّ مثلَ هذه التصرفاتِ تقلّلُ من شخصيةِ أبنائهم أمامَ أقرانِهم؛ غيرَ أنهم ذَكروا في الوقتِ ذاتِه بأنّ ذلك شجّعَ أبناءَهم على تبَنّي سلوكٍ إسرافيٍّ في أغلبِ الأوقاتِ؛ وسبّبَ ضغطاً مالياً كبيراً في بعضِ الأحيانِ، ومشاكلَ أُسريةً.
فيما عدّتْ بعضُ الآراءِ أنّ حياةَ الأبناءِ اليومَ تختلفُ عن حياتِنا، وطبيعةَ المجتمعِ الاستهلاكي تحتمُ علينا أنْ نُلَبيَ طلباتِهم؛ لاسيما وأننا نجدُ أنفُسَنا مُحاصَرينَ بسلوكِ المجتمعِ الكاملِ؛ فعلى سبيلِ المثالِ في موسمِ العودةِ إلى المدارسِ؛ نجدُ أنفسَنا مُجبَرينَ أنْ نصحبَ أبناءَنا إلى شراءِ ما يلزمُ، وما لا يَلزمُ من حاجياتٍ إرضاءً لذوقِهم العام ونفسياتِهم، وبطلِ اليوتيوب الذي يتابعونَه، مؤكّدينَ أنّ الحالةَ عامةٌ؛ لِذا عندما تفكّرُ في حرمانِ طفلِكَ؛ تجدُ نفسَك تَقهرُه ولا تُربِّيهِ.
الكثيرُ من الآباءِ والأمهاتِ الذين استطلعتْ “السعادة” آراءَهم؛ أقرّوا بخطأ السلوكِ، واعترفوا أنهم أمام أزمةٍ تربويةٍ وأسريةٍ خانقةٍ؛ تُكلّفُهم الكثيرَ من المالِ أو الكثيرَ من الحرمانِ لأبنائهم، فقديماً كُنا نقولُ للأبناءِ أنّ هذه الحاجياتِ غيرُ موجودةٍ في غزةَ؛ نظراً لأنّ عارضيها كانوا من اليوتيوب خارجَ غزةَ، أو عبرَ الفضائياتِ، أمّا اليومَ فهُم يطلبونَ هذه الكمالياتِ البائسةَ بالتفصيلِ حتى باسمِ المكانِ.
نَمطُ المعيشةِ
من جانبِها تقولُ الاختصاصيةُ التربويةُ “سماح أبو زينة”:” إنّ الطفلَ يكتسبُ عادةَ الإسرافِ هذه من نمطِ المعيشةِ في البيتِ، وثانياً التدليلِ والدلعِ الذي يحصلُ عليه من أحدِ والدَيهِ أو كِلاهما معاً؛ ما يعزّزُ منه كسلوكٍ خاطئٍ إلى جانبِ غيرِها من السلوكياتِ الخاطئةِ، إذْ إنّ الطفلَ المدلَّلَ يُجبِرُ والدَيهِ على النزولِ تحتَ رغبتِه؛ فيعطيانِه ما يريدُ دونَ مراعاةٍ لحقائقَ أساسيةٍ في التربيةِ؛ قد تجعلُ من هذا الطفلِ غيرَ مسئولٍ، ولا يُقدّرُ الاحتياجاتِ المُهمّةَ التي من المفترَضِ القيامُ بها.
وتضيفُ: إذا رأى أحدُ الوالدينِ أو كلاهما إسرافَ أطفالِهم في الطعامِ أو الشرابِ، أو غيرِ ذلك؛ عليه أنْ يُنَبِّهَ بأنّ هذا الشيءَ مذمومٌ، ويُذكّرَه بقولِ اللهِ تعالى: (كلوا واشربوا ولا تُسرفوا)، إلى جانبِ تبيانِ المَضارِّ الصحيحةِ لهذا الإسرافِ؛ فضلاً عن تكليفِ الأطفالِ بأعمالٍ متعِبةٍ تجعلُهم يعرفونَ قيمةَ الحصولِ على المالِ، أو إيجادِ حصالةٍ في البيتِ لوضعِ ما يتبقّى لهم من مالٍ فيها.
وتتابعُ: مشكلةُ التبذيرِ في المصروفِ اليومي للطالبِ؛ قد باتت مشكلةً تعاني منها بعضُ المدارسِ، مبيِّنةً من وجهةِ نظرِها بأنّ التبذيرَ في مصروفِ الطالبِ يؤدّي إلى عوائقَ مستقبليةٍ؛ منها عدمُ تقديرِ الطالبِ للجهدِ المبذولِ للحصولِ على المالِ، وعدمُ اكتراثِه لنعمةِ المالِ، والاتجاهِ السليمِ لصرفِه فيه، وقد يثيرُ مشكلةَ الطبقاتِ بينَ فئاتِ الطلبةِ المختلفةِ اقتصادياً.
لافتةً من ناحيةٍ أخرى إلى أنه لا مانعَ من إعطاءِ مصروفٍ يومي للطالبِ؛ ولكنْ بحدودِ المعقولِ؛ وذلك لتعويدِه على تحمّلِ مسؤوليةِ ما بِجَيبِه، والتعوّدِ على كيفيةِ التعاملِ مع النقودِ، والأخذِ بمبدأ الأخذِ والعطاءِ، وحلُّ هذه المشكلةِ يتمثّلُ بأهميةِ توعيةِ الأهلِ بسلبياتِ وإيجابياتِ المصروفِ اليومي، وتحديدِ ما يلزمُ ابنَهم من احتياجاتٍ؛ حيثُ يشملُ جوانبَ عديدةً؛ منها الإنفاقُ والمأكلُ والمشربُ والترفيهُ والملبسُ وغيرُه، منوّهةً أنّ البابَ الأساسَ لظاهرةِ الإسرافِ تنطلقُ من غيابِ الوعي لدَى الأسرةِ؛ بخطورةِ السلوِك الاستنزافي للمواردِ، وأيضاً الدلالُ من خلالِ تلبيةِ كافةِ المطالبِ؛ كونَ الأطفالِ يولدونَ على الفطرةِ؛ إلّا أنّ الآباءَ يشكلونَ تلكَ الفطرةَ على حسبِ تنشئتِهم لهم.
الجهلُ بالأصولِ
وتشيرُ: إنّ جهلَ الأهلِ بأصولِ التربيةِ، وغرسِ العاداتِ السليمةِ لدى الطفلِ، إضافةً إلى سوءِ الفهمِ لدى الأسرةِ، والظنّ بأنّ تلبيةَ مطالبِ الطفلِ _وإنْ تجاوزتْ الحدَّ المعقولَ_ تعبّرُ عن مقدارِ حبِّهم له، كلُ تلكَ الأسبابِ تخلقُ أطفالاً مسرفينَ ومتعالينَ في نفسِ الوقتِ.
وتتابعُ: إنه في عُمرِ ثلاثةِ أعوامٍ؛ يبدأُ الطفلُ بتعلّمِ العدِّ، وتمييزِ الأحجامِ، وبعُمرِ أربعةٍ إلى ستةِ أعوامٍ؛ يكونُ واعياً لمفهومِ ووظيفةِ المالِ، وعمليةِ البيعِ والشراءِ، وفي عُمرِ ثمانيةِ أعوامٍ من المُهِم الحديثُ عن توفيرِ المالِ للغدِ، ذاكرةً أنّ بعضَ الأطفالِ يتأخّرونَ في الإدراكِ، ولكنّ التصنيفَ السابقَ كان لمتوسطِ الأعمارِ في الإدراكِ، لذلك على الأهلِ تعويدُ الطفلِ منذُ الصغرِ على أهميةِ توفيرِ المالِ؛ لأنّ المدرسةَ تعلّمُ الطفلَ الرياضياتِ والعدَّ؛ وليس التوفيرَ وقيمةَ المالِ.
مبينةً أنه من الممكنِ أنْ يكونَ المالُ أسلوبَ تحفيزٍ وتشجيعٍ، كأنْ تقولَ لابنِك: “لأنّ درجاتِك هذا الفصلَ كانت ممتازةً،؛ ستكونُ هديتُك مبلغاً من المالِ”، مؤكّدةً أنّ الإفراطَ في المالِ بلا حدودٍ؛ سيَفقدُ قيمتَه عندَ الطفلِ؛ ما يؤدي لأنْ يصبحَ غيرَ قادرٍ على التحكمِ في رغباتِه، وما هو المُهم في الحياةِ، وأيضاً سيزيدُ من اعتمادِ الطفلِ على أهلِه؛ وبالتالي سيكسبُ صفةَ التبذيرِ والإسرافِ في المالِ.
من جانبِه يقولُ الدكتور “ماهر السوسي”، أستاذُ الشريعةِ والقانونِ بالجامعةِ الإسلاميةِ:” إنّ الإسلامَ نهَى عن الإسرافِ والتبذيرِ في كلِّ حالٍ؛ سواءٌ في المالِ أو في غيرِه، حتى في تربيةِ الأولادِ، فكان الصحابي عمرُ بنُ الخطابِ _رضي الله عنه_ يؤدّبُ الرجالَ من المسلمينَ بقولِه: “اخشَوشِنو”، ثُم يُعلّموا أبناءَهم هذا الخُلقَ؛ بعدمِ الترفِ والأخذِ بالبذخِ مخافةَ ألاّ تدومَ النعمةُ، فيتحرّجُ كلُّ ما عندَه مالٌ وذهبٌ عنه.
سنٌّ مبكرةٌ
وبالتالي يصابُ بما لا يريدُه اللهُ من العبدِ؛ وهما اليأسُ والقنوطُ . ومن هناك كان الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم يُعلّمونَ أبناءَهم الأخذَ بالأسبابِ، والاعتمادَ على الذاتِ دونَ الاعتمادِ على الآخَرينَ؛ مضيفاً بأنّ أبناءَنا اليومَ لو تمَّتْ تربيتُهم على الاعتمادِ على الغيرِ، لَما استطعْنا أنْ نستفيدَ من مجهوداتِهم في المستقبلِ.
وذكرَ “أبو السوسي” بأنّ الإسلاَم جعلَ الوصايةَ على مالِ الصغيرِ أمراً من أمورِ ضبطِ الأحكامِ في الإسلامِ، وذلكَ أنّ اللهَ سبحانه وتعالى قال: (ولا تؤتوا السفهاءَ أموالَكم التي جعلَ اللهُ لكم قياماً وارزقُوهم فيها واكسُوهم وقولوا لهم قولاً معروفا). ونسبَ المالَ إلى الوَصيِّ، ولم يَنسبْهُ للسفيهِ؛ لأنه لا يُحسنُ التصرفَ فيه، ثُم أمرَنا أنّ الأطفالَ إذا ما بلغوا الرشدَ؛ أنْ نعطيَهم أموالَهم.
وفقَ دراسةٍ أجرتْها جامعةُ كامبريدج، تتشكّلُ عاداتُنا الخاصةُ بالقراراتِ الماليةِ عندَ سنِّ السابعةِ، إذْ نكونُ قادرينَ على فهمِ التخطيطِ للمستقبلِ، وتأجيلِ الإنفاقِ حتى وقتٍ لاحقٍ، وفهمِ كيف أنّ بعضَ القراراتِ لا رجعةَ فيها. ويؤكّدُ الدكتور “ديفيد وايتبريد”، أحدُ المشاركينَ في هذه الدراسةِ، أنّ عاداتِ الآباءِ تغلبُ على أطفالِهم، ففي هذه السنِّ المبكرةِ لا يُتاحُ للأطفالِ التحكُّمُ سِوى بقليلٍ من المالِ، ويكونُ للآباءِ السيطرةُ على قراراتِ الأطفالِ؛ وبهذا يكتسبونَ المهاراتِ الأساسيةَ منهم.
بينَ كلِّ أربعةِ آباءٍ؛ هناكَ واحدٌ فقط مقتنعٌ بأهميةِ تعليمِ الطفلِ كيفيةَ إدارةِ المالِ، يقولُ: “أفهمُ كيف أنّ الآباءَ لا يرونَ في تدريبِ الطفلِ على أمورِ البالغينَ مِثلَ “المالُ أمرٌ جذّابٌ”، ويضيفُ: “هناك جانبٌ مرحٌ في حقيقةِ أنّ الأطفالَ الصغارَ يعيشونَ سنواتِهم الأولى بتلقائيةٍ دونَ قيودِ ومشكلاتِ الكبارِ؛ لكنْ إذا كنتَ تريدُ أنْ تقدّمَ لطفلِك مهارةً تفيدُه مدَى الحياةِ، فكلَّما بدأتَ مبكراً في تعليمِه إدارةَ الذاتِ، وأنْ يتغلّبَ على رغباتِه؛ كان ذلكَ أفضلَ له”.
المستقبلُ مُعتِمٌ
ويرى اختصاصيونَ اقتصاديونَ أنّ الرؤيةَ الاقتصاديةَ الحاليةَ؛ تقولُ أننا بحاجةٍ إلى الاتجاهِ إلى الحدِّ من الإنفاقِ، بمَعنى آخَرَ رفعُ مستوى الادّخارِ لدَى الأسرةِ الغزيةِ ؛ لذا لا بدَّ من تعويدِ الابنِ منذُ الطفولةِ على استشعارِ قيمةِ كلِّ شيكل يَملكُه؛ وذلكَ بتوضيحِ سعرِ اللعبةِ أو الحلوى وغيرِها من رغباتِ الأطفالِ، هذا بجانبِ التحاورِ مع الطفلِ عن كيفيةِ جلبِ الأبِ والأمِ لهذه النقودِ، وأنها لا تأتي على طبقٍ من ذهبٍ، وبالتالي يجبُ وضعُها في مكانِها الصحيحِ، ومع تقدُّمِ عُمرِ الابنِ سيكونُ شيئاً راسخاً وثابتاً في ذهنِه، حيثُ أنه تشرّبَ منذُ الطفولةِ عدمَ التبذيرِ، وترْكَ الهدرِ وإنفاقِ المالِ بما ليس كُفئاً له.