
“التوافقُ حياةٌ”؛ عبارةٌ مكتوبةٌ أينما ولَّيتَ نظرَك في الشوارعِ، على مواقعِ التواصلِ، في كتب الحِكَمِ والحياةِ الزوجيةِ، وفي هدايا الأصدقاءِ، وكأنها لوحةٌ إعلانيةٌ تُشبِهُ الإعلام لفيلمٍ جديدٍ أو سِلعةٍ جديدةٍ.
والسؤالُ الذي يطرحُ نفسَه هنا هو: ماذا يعني التوافقُ؟ وهل هو ضروريٌّ في الحياةِ؟ ومتى يتحققُ؟ وكيف تنجحُ الحياةُ بالتوافقِ؟ وكيف تفشلُ بغيابِه؟ وهل يعني التوافقُ أنْ يكونَ أحدُ الطرَفينِ نسخةً طبقَ الأصلِ عن الآخَرِ؟ أسئلةٌ كثيرةٌ يجيبُ عليها هذا التحقيقُ؛ لفتحِ البابِ أمامَ الأزواجِ لحياةٍ سعيدةٍ هادئةٍ بلا خلافٍ أو مشاكلَ .
مَها عبد الواحد “33 عاما، تقولُ لـ “السعادة”:” لا يمكنُ بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ أنْ يكونَ الزوجانِ نسخةً طبقَ الأصلِ في الصفاتِ والسلوكياتِ والتصرفاتِ، ومن الصعبِ أنْ يتَّحِدَ الآخَرونَ في الرأيِّ أو الطباعِ أو الثقافةِ أو العاداتِ والتقاليدِ، والأزواجُ.
خلافٌ حقيقٌي
تضيفُ يأتي الزوجُ من بيئةٍ؛ والزوجةُ من بيئةٍ أخرى، ويتّحِدانِ عبرَ عقدِ شراكةٍ؛ ويتعاهدانِ أمامَ اللهِ على العِشرةِ الطيبةِ، وقد تختلفُ الطباعُ والآراءُ بينَهما؛ ولكنْ بالحبِ يستطيعُ كلٌّ منهما إقناعَ الآخَرِ بوِجهةِ نظرِه، أو التنازلِ عن موقفِه أحياناً من أجلِ الآخَرِ، ولكنْ إذا أصرَّ كلٌّ منهما على رأيّهِ ووِجهةِ نظرِه؛ وعاندَ كلُّ واحدٍ منهما الآخَرَ؛ تحوّلتْ الحياةُ إلى خلافٍ حقيقٍ، من هنا تبدو أهميةُ المُصارحةِ والتعبيرِ عن خلجاتِ النفسِ، والتفاهمِ للوصولِ إلى اتفاقٍ يُرضي الطرَفينِ.
بينما يؤكّدُ زوجُها عصام الحميدي “29 عامًا “:” إنّ انعدامَ التوافقِ الزوجي؛ قد يؤدّي إلى الطلاقِ.. ويضيفُ قائلاً: التوافقُ هو قدرةُ كلٍّ من الزوجينِ على التواؤمِ مع الآخَرينَ، ومع مطالبِ كلٍّ منهما للآخَرِ، ويستدلُّ على ذلكَ من أساليبِ كلٍّ منهما في تحقيقِ أهدافِ الزواجِ، وفي مواجهةِ الصعوباتِ الزوجيةِ، وفي القدرةِ على التعبيرِ عن المشاعرِ والانفعالاتِ، ويَحدثُ التوافقُ إمّا بتلبيةِ الزوجةِ لمطالبِ الزوجِ، وإمّا العكسِ، أو تلبيةِ الزوجينِ لمطالبِ الزواجِ بوصولِهما إلى حلولٍ وسطَى تُرضي الطرَفينِ، وتتفقُ مع معاييرِ المجتمعِ وتقاليدِه.
ويتابعُ: يُعَدُّ الزوجانِ متوافقَينِ إذا كانت سلوكياتُ كلٍّ منهما مقبولةً من الآخَرِ، وقامَ بواجباتِه نحوَه، وأشبعَ له حاجاتِه، وعملَ على ما يربطُه به، وامتنعَ عن كلِّ ما يؤذيهِ أو يفسدُ علاقتَه به أو بأُسرتِه، وأهمُّ صفاتِ الأزواجِ السعداءِ هي القدرةُ على ضبطِ النفسِ، والميلِ إلى التعاونِ والمزاجِ المعتدلِ، وعدمِ الانسياقِ إلى اليأسِ، أو فقدانِ الثقةِ بالنفسِ، وغلبةِ روحِ الموَدّةِ والصداقةِ، والميلِ إلى الحركةِ والنشاطِ.
فيما ترى رَغدة البحيصي “40 عامًا “: إنّ هناك أسباباً كثيرةً قد تؤدّي إلى عدمِ التوافقِ بين الأزواجِ، ومنها اختلافُ الأنماطِ الحياتيةِ البسيطةِ، التي كانت تتصِفُ بالكفافِ والقناعةِ والإيثارِ إلى أنماطٍ معقّدةٍ تزيدُ من الضغوطِ النفسيةِ على الأسرةِ. كما أنّ الفرقَ الكبيرَ في السنِّ بين الأزواجِ؛ يؤدّي إلى الاختلافِ؛ إضافةً إلى مشكلاتِ التواصلِ؛ كعدمِ التفاهمِ، واختلافِ الثقافةِ، وعدمِ التكافؤ الاجتماعي والتعليمي، والمشكلاتِ النفسيةِ كالغيرةِ، والأنانيةِ، والتسرّع، والعصبيةِ، والخيانةِ، والانحرافِ، والإدمانِ.
الإحسانُ هو الأصلُ
وتضيفُ: إضافةً إلى الضغوطِ الخارجيةِ التي تتمثّلُ في تدَخُلِ الأهلِ، والزواجِ بأخرى، وعملِ المرأةِ، والفراغِ، وتدخُلِ الآخَرينَ، إضافةً إلى مشاكلَ أخرى ماديةٍ أو عاطفيةٍ، ومشكلةِ العاداتِ والتقاليدِ، منوّهةً أنّ التوافقَ هو الانسجامُ الروحي الذي يربطُ الأزواجَ، ولا يتحققُ إلا بالاختيارِ الصحيحِ للزوجةِ، فالكثيرُ من الشبابِ عندَ اختيارِ الزوجةِ؛ يبحثونَ عن الجمالِ أو المالِ؛ وآخِرُ ما يفكرونَ فيه هو الدّينُ والثقافةُ والاهتماماتُ!
بينما يؤكّد علاء شحادة “41 عامًا”: إنّ أساسَ التوافقِ هو الموَدةُ والرحمةُ بينَ الأزواجِ؛ فلو عاشَ الزوجانِ في بيتٍ يغمرُه الحبُّ، وتَسودُه المودةُ والرحمةُ؛ عاشا في وئامٍ واتفاقٍ، فالحبُّ يجعلُ الطرَفَ الثاني يُضَحي من أجلِ الطرَفِ الأولِ، والعكسُ صحيحٌ، فالزواجُ سَكَنٌ وموَدةُ لطرَفَي العلاقةِ الزوجيةِ.
ومن شأنِ السكَنِ والموَدةِ أنْ يتّصِفا بالديمومةِ والثباتِ والاستقرارِ؛ لكنْ مع فقدانِ الوَعي، وارتفاعِ نسبةِ الضغوطِ النفسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ؛ يبقَى ذلكَ السكَنُ أملاً منشوداً، فالضغوطُ تُزعزِعُ استقرارَ الأسرةِ، وتهدّدُ ذلك الهدوءَ؛ لذلكَ لابدَّ من الشعورِ بالمشكلةِ، والبحثِ عن أسبابِها، والمصارحةِ بين الزوجينِ، والثقةِ بينهما، وعدمِ إدانةِ أحدِهما للآخَرِ.
فيما تقولُ ميرفت أبو نادي “39 عامًا “:” أنه كُلما أحسنَ الزوجُ إلى زوجتِه؛ زادَ التوافقُ بينَهما، وأنّ حُسنَ العِشرةِ يجعلُ المرأةَ تقدّرُ هذا الرجلَ، فتحاولُ جاهدةً لإرضائهِ، وأحياناً أخرى تقدّمُ العديدَ من التنازلاتِ، ومن حُسنِ العِشرةِ أنْ يغُضَّ الرجلُ الطرْفَ عن بعضِ نقائصِ زوجتِه؛ ليَصِلا إلى التوافقِ المطلوبِ، وألّا يعاملَ بعضُهما البعضَ معاملةَ الندِّ للندِّ؛ بل لابدّ من التسامحِ، وأنْ يتغاضَى الزوجُ عن بعضِ أخطائِها.
مرضُ العلاقةِ
من جانبِها تقولُ “رائدة أبو عبيد”، دكتورُ علمِ النفسِ التربوي والسلوكي:” إلّا أنّ عدمَ التوافقِ بين الزوجينِ؛ قد يؤدّي إلى الطلاقِ، ويشملُ ذلكَ التوافقَ الفِكري، وتَوافقَ الشخصيةِ والطباعِ، والانسجامَ الروحي والعاطفي. وتُتابعُ قائلةً: «هذه العمومياتُ صعبةُ التحديدِ، ويصعبُ أنْ نجدَ رجلاً وامرأةً يتقاربانِ في كلِّ هذه الأمورِ، وهنا تختلفُ المقاييسُ فيما تَعنيهِ كلمةُ التوافقِ، وإلى أيِّ مدَى يجبُ أنْ يكونَ ذلك، ولابدّ لنا من تعديلِ أفكارِنا وتوَقُّعاتِنا حولَ موضوعِ التوافقِ؛ لأنّ ذلك يفيدُ كثيراً تقبُّلَ الأزواجِ لزوجاتِهم والعكسُ.
وتضيفُ: الأفكارُ المثاليةُ تؤدّي إلى عدمِ الرضا، وإلى مرضِ العلاقةِ وتدَهوُرِها، وبشكلٍ عملي نجدُ أنه لابدَّ من حدٍّ أدنَى من التشابُهِ في حالةِ استمرارِ العلاقةِ الزوجيةِ، فالتشابهُ يولّدُ التقاربَ والتعاونَ، والاختلافُ يولدُ النفورَ والكراهيةَ والمشاعرَ السلبيةَ؛ ولا يعني التشابُه أنْ يكونَ أحدُ الطرَفينِ نسخةً طِبقَ الأصلِ عن الآخَرِ، ويمكنُ للاختلافاتِ بينَ الزوجينِ أنْ تكونَ مفيدةً؛ إذا كانت في إطارِ التكاملِ والاختلافِ البنّاءِ، الذي يُضفي على العلاقةِ تنوُّعاً وإثارةً وحيويةً.
وتتابعُ: وإذا كان الاختلافُ كبيراً، أو كان عدائياً تنافسياً؛ فإنه يُبعِدُ الزوجينِ كِليهِما عن الآخَرِ، ويغذّي الكُرهَ والنفورَ وعدمَ التحمّلِ؛ ما يؤدّي إلى الطلاقِ. ونجدُ أنّ عدداً من الأشخاصِ تنقصُهم الخبرةُ في التعاملِ مع الآخَرين؛ وذلكَ بسببِ تكوينِ شخصيتِه وجمودِها أو لأسبابٍ تربويةٍ وظروفٍ قاسيةٍ، وحرمانٍ متنوعٍ.. أو لأسبابٍ تتعلقُ بالجهلِ وعدمِ الخبرةِ، وهؤلاءِ الأشخاصُ يصعبُ العيشُ معهم، ومشاركتُهم في الحياةِ الزوجيةِ، ما يجعلُهم يتعرضونَ للطلاقِ.
وتُواصلُ: لابدّ من التأكيدِ أنّ الإنسانَ يتغيّرُ، وأنّ ملامحَ شخصيتِه وبعضَ صفاتِه يمكِنُ لها أنْ تعتدلَ؛ إذا وجدتْ الظروفَ الملائمةَ، وإذا أُعطيَتْ الوقتَ اللازمَ والتوجيهَ المفيدَ، ويمكنُ للإنسانِ أنْ يتعلّمَ كيف يُنصِتُ إلى الطرَفِ الآخَرِ، وأنْ يتفاعلَ معه، ويتجاوبَ بطريقةٍ إيجابيةٍ ومريحةٍ؛ وهكذا فإنه يمكنُ قبلَ التفكيرِ في الطلاقِ والانفصالِ؛ أنْ يحاولَ كلٌّ من الزوجينِ تفَهُمَ الطرَفِ الآخَرِ، وحاجاتِه وأساليبِه، وأنْ يسعَى إلى مساعدتِه على التغيّرِ.
حبُّ التحكّمِ
وتستطردُ: في الحياةِ اليوميةِ لابدّ من الاختلافِ والمشكلاتِ في العلاقةِ الزوجيةِ، ولعلَّ هذا من طبيعةِ الحياةِ، والمُهمُّ هو احتواءُ المشكلاتِ، وعدمُ السماحِ لها بأنْ تتضخّمَ وتَكبر؛َ وهذا بالطبعِ يتطلّبُ خبرةً ومعرفةً يفتقدُها كثيرون، ورُبما يكونُ الزواجُ المبكّرُ عاملاً سلبياً؛ بسببِ نقصِ الخبرةِ والمرونةِ، وزيادةِ التفكيرِ الخيالي، وعدمِ النضجِ فيما يتعلّقُ بالطرَفِ الآخَرِ، وفي الحياةِ نفسِها.
من جانبِه يقولُ الاختصاصي محمود عبد العزيز منصور: “إنّ عدمَ التوافقِ يرجعُ إلى الأزواجِ أنفسِهم؛ فكلُّ واحدٍ منهم يَحملُ في داخلِه طابعَ حُبِّ التحكمِ في الطرَفِ الآخَرِ، فالتحكمُ هو النجاحُ في نظرِهما”. هذا المفهومُ الخاطئُ يثيرُ عدداً من المشاكلِ؛ لكنّ الصحيحَ أنّ الزواجَ ليس وسيلةً للتحكُمِ في الطرَفِ الآخَرِ؛ بقَدرِ ما هو شراكةٌ لتحقيقِ السعادةِ لا العداءِ.
فالزواجُ وسيلةٌ لتحقيقِ الحاجاتِ بمُساعدةِ الطرَفِ الآخَرِ، وللمرأةِ أربعُ حاجاتٍ؛ أُولاها الحاجةُ إلى الانتماءِ والحبِّ، فهي بحاجةٍ إلى الانتماءِ إلى أسرةٍ سعيدةٍ وحُبٍّ متبادَلٍ، وحاجةٍ إلى الحريةِ، وحاجةٍ إلى القوةِ والمرَحِ، وحاجةٍ إلى الإنجابِ.. والزواجُ هو الجسرُ الذي يوصِلُها إلى حاجاتِها الأربعِ، وعليها أنْ تسيرَ على هذا الجسرِ من دونِ أنْ تُحطِّمَه.
ويتابعُ: إنّ حُبَّ التحكمِ في الطرَفِ الآخرِ؛ قد يدفعُ إلى الصراخِ وإلى عواقبَ غيرِ محمودةٍ، وإنّ التغييرَ لابدَّ أنْ ينطلقَ من الذاتِ لا من الغيرِ؛ وعليهِ لابدَّ من أنْ نفكّرَ في تغييرِ أنفسِنا؛ لا في تغييرِ مَن حولَنا، والبعضُ يلجأُ إلى العقابِ والانفعالِ الزائدِ من أجلِ تغييرِ الآخَرِ، ولكنْ في الحقيقةِ هناك عدّةُ وسائلَ تساعدُ على التغييرِ؛ مِثَل التشجيعِ والاحترامِ المتبادَلِ، وأنْ يفكّرَ الطرَفانِ في محاسنِ ومميزاتِ الآخَرِ؛ دونَ التركيزِ على السلبياتِ التي ستتلاشَى لو ركّزنا على المَحاسنِ.
بينَ القوةِ والمشاعرِ
أمّا المفهومُ الثاني في عدمِ التوافقِ؛ فهو أنّ المفاهيمَ والمبادئَ يختلفُ مدلولُها لدَى المرأةِ عنها عندَ الرجلِ، ولو أدركنا هذا الاختلافَ؛ وصلْنا إلى الاستقرارِ وإلى التوافقِ؛ فمَثلاً الحبُّ عندَ الرجلِ يعني القوةَ، فبِقدرِ حُبي لأسرتي؛ أنفقُ المالَ وأعملُ من أجلِهم، أمّا الحبُّ عندَ المرأةِ؛ فهو مشاعرُ فيّاضةٌ، وكلامٌ ناعمٌ، فلو اشترَى رجلٌ لزوجتِه خاتمَ ألماسٍ؛ تضعُ له نقطةً، ولو قال لها إنني مشتاقٌ إليكِ؛ تضعُ له مائةَ نقطةٍ، فهذه الكلمةُ هي التي حرّكتْ مشاعرَها؛ لذلك اختلافُ المفاهيمِ عندَ المرأةِ عنها لدَى الرجلِ؛ يؤدّي إلى اتفاقٍ لو فَهِمَ كلٌّ منهما الآخَرُ.
وحسبَ “منصور” فإنّ التوافقَ في الزواجِ؛ يمكنُ أنْ يتحققَ لو سألَ الشخصُ نفسَه لماذا نتزوجُ؟ إنّ في الزواجِ تحقيقاً لحاجاتِنا، والمرأةُ تجبُ عليها الطاعةُ، وإذا سألتْ نفسَها لماذا أطيعُ زوجي؟ ترى أنه أمرُ اللهِ فتُنفِّذه؛ وفي المقابلِ لو سألَ الزوجُ نفسَه: لماذا أُحسِنُ العِشرةَ؟ فسَيرَى أنّ الدّينَ أمرَه بذلكَ، فقد قالَ الرسولُ الكريمُ “رِفقاً بالقواريرِ “ولو أدركَ الزوجُ أنّ صبرَه على زوجتِه فيه أجرٌ؛ لازدادَ صبرًا، وهي إذا سألتْ نفسَها لماذا أصبرُ؟ ستَجدُ أنّ الإجابةَ من أجلِ أخذِ الثوابِ والأجرِ، لا من أجلِ الأولادِ؛ وهذا يدفعُها إلى العطاءِ.