يا بَختها موظفة !
يا بختها “موظفة”! عبارةٌ طالَما سمِعتْها كلُّ النساءِ العاملاتِ؛ من نساءٍ ورجالٍ وحَمواتٍ وسلفاتٍ وجاراتٍ؛ لا يُدرِكونَ أنّ الوظيفةَ تنهشُ حياةَ الإناثِ دونَ رحمةٍ؛ تنهشُ صحتَهُنَّ التي بدأتْ تغادرُ كلَّ الموظفاتِ وهنَّ على أعتاب الأربعينَ؛ يَتردَّدْنَ على عياداتِ الضغطِ والسكرِ والعظامِ والغضاريفِ، تنهشُ أمومَتَهن يوميًا وهنّ متوتراتٌ وقلقاتٌ مستنزَفاتٌ، في جَدليةٍ، ماذا يفعلُ أبنائي الآنَ؟ هل هم بخيرٍ؟ هل حدثَ لهم مكروهٌ؟
تنهشُ علاقاتِهِنّ واجتماعياتِهنّ؛ وتَصُبُّها في قالبِ الرسمياتِ والواجباتِ لا أكثرَ، فَشُربُ فنجانِ قهوةٍ مع صديقةٍ في ساعاتِ الصباحِ أمرٌ خارجٌ عن المألوفِ والقدراتِ لغالبيةِ السيداتِ العاملاتِ، تنهشُ أنوثتَهُنَّ حينَ تُلزَمُ العاملةُ في مجتمعِنا أنْ تتشاركَ مع الرجلِ في كلِّ مسؤولياتِه، وفى كثيرٍ من الأحيانِ تتحمّلُ كلَّ مسؤولياتِه؛ فقط لأنها عاملةٌ، وتنهشُ أنوثتَهُنَّ وهنَّ يفكِّرْنَ في توفيرِ لقمةِ العيشِ، ومتطلباتِ الأبناءِ، وتأمينِ مستقبلِهم، والأصعبُ أنْ تنهشَ أنوثتَهُنَّ وهنَّ يدرِكْنَ أنها تُخطَبُ لأجلِ الوظيفةِ في كثيرٍ من الأحيانِ.
بدأتْ سنواتُ أمومتي متأخّرةً؛ حيثُ كنتُ على أعتابِ الثلاثينَ؛ عندما رزقني اللهُ أولَ طفلةٍ، اضطَّرَرْتُ كَكُلِّ النساءِ العاملاتِ بالحياةِ؛ أنْ أضعَ طفلتي داخلَ إحدى الحضاناتِ المختصَّةِ؛ بعدَ عمليةِ تمحيصٍ وتدقيقٍ لأفضلِهِنَّ. في أحدِ أيامي حدَّثتْني صغيرتي بكلماتٍ ومفاهيمَ لم أكُنْ أعلَمُ أنّ ابنتي تعرِفُها؛ فأنا لم أُعلِّمْها إياها؛ وذُهِلتُ من معارفِ صغيرتي! وأنني لستُ الوحيدةَ التي أقومُ بتربيتِها، أو تعزيزِ معارفِها بالحياةِ، هذا الموقفُ على الرغمِ من قِدَمِه الآنَ؛ إلّا أنه كان أولَ جرحٍ أصِبتُ فيه بأُمومَتي كسيدةٍ عاملةٍ، وقارنتُ يومَها بيني وبينَ كلِّ النساءِ التي تستمتعُ بكُلِّ لحظاتِها وتفاصيلِها مع صغارِها ، تزرعُ فيهم ما تشاءُ؛ بينما أنا مضطَّرةٌ بشكلٍ يوميّ أنْ أُجري تحقيقاً كبيراً مع صغيراتي؛ ليطمئنَ قلبي أنهنَّ لم يتلَقَّينَ في الحضاناتِ سلوكياتٍ أو مفاهيمَ لا أريدُها.
أَذكرُ حزنيَ وقهريَ وعجزيَ؛ عندما أخبرتْني صغيرتي ذاتَ الثلاثةِ أعوامٍ؛ أنّ المُربّيةَ في الحضانةِ قد (خبطتْ رأسَ أختِها ذاتِ التسعةِ أشهر بالجدارِ)، وأذكرُ حزنيَ في ساعاتِ صباحِ ديسمبر الباردةِ؛ وأنا أُوقِظُ صغيراتي في السادسةِ صباحاً؛ كي أرسلَهُنّ إلى الحضانةِ_ بينما يَنعَمُ بقيةُ الأطفالِ بالدفءِ_ حتى يتَسنَّى لي الذهابُ إلى العملِ، وأذكُرُ.. وأذكرُ.. وأذكرُ كلَّ جروحِ أمومتي، وكلَّ شعورٍ بالعَجزِ عِشتُه يوماً كامرأةٍ عاملةٍ.
وتَصدِمُني الأقاويلُ والأفكارُ التي يَحملُها المجتمعُ تُجاهي كعاملةٍ! أحدُهم يَعَدُّ خروجَ المرأةِ للعملِ بشكلٍ يوميّ فسحةً يوميةً تُرَفِّهُ فيها عن نفسِها! بينما تقبضُ آخِرَ الشهرِ راتباً تتمتعُ به.. ولا يُدركونَ أنها تضطّرُ إلى تَحمُّلِ كلِّ ضغوطاتِ وتوَتُّراتِ الوظيفةِ وأعبائها؛ لتعودَ إلى بيتِها أمّاً صبورةً وزوجةً بَشوشةً، وآلَةً تعملُ دونَ كَلَلٍ أو مَلَلٍ، وأنّ العملَ ليس جلوساً على الشاطئِ مع احتساءِ العصيرِ، عملُ المرأةِ مَهَامٌّ ومتطلّباتٌ لا يُدرِكُها إلا مَن يمارسُ العملَ فِعليّاً.
بينما يرى البعضُ الآخَرُ بعضَ الامتيازاتِ التي تحاولُ الموَظّفةُ توفيرَها لأبنائها “بذخاً اجتماعياً خالصاً”، ولا يُدرِكونَ أنه جزءٌ من تعذيبِ الضميرِ الذي تعيشُه العاملاتُ تُجاهَ أبنائها؛ وتحاولُ أنْ تمنحَهم شيئاً مختلفاً؛ خوفاً من العتابِ يوماً، وخوفاً من التقصيرِ أحياناً.
الغريبُ أنهم ينسَونَ أنّ هذه المرأةَ عليها أنْ تُديرَ حياتَها على أكمَلِ وجهٍ؛ أنْ تعملَ ما لا يَقِلُّ عن(15) ساعةً يومياً دونَ راحةٍ؛ حتى تتَمكّنَ من تأديةِ مَهامِّها البيتيةِ والعائليةِ والعمليةِ دونَ كَلَلٍ أو مَللٍ أو تَذَمُّرٍ، وعليها أنْ تقابلَ كُلَّ الحياةِ بابتسامةٍ؛ تماماً كتلكَ السيدةِ التي تَصحو وقتَ الظهيرةِ فتُمارِسُ بعضاً من مَهامِّ منزلِها وأبنائها، تشربُ قهوتَها مع مَن أرادتْ من جاراتِها أو صديقاتِها، تُتابِعُ “السوشيال ميديا” بِبَذَخٍ واضحٍ من الوقتِ؛ ثُم تأتي لتقولَ بكُلِّ صلافةٍ: (يا بَخت “فلانة” موظفة)
عزيزي القائل وعزيزتي
القائلةُ ليتَ المَبخوتةَ “الموَظّفة” تنعمُ ببعضٍ من راحتِكم! ليت المبخوتةَ تصحو متى تريدُ! وتنامُ متى تريدُ! ليت المبخوتةَ تتمتعُ بمالِ وظيفتِها كما تحسبونَ! ليت المبخوتةَ تَجدُ بعضًا من الوقتِ لتُدقّقَ في أخبارِ جيرانِها السعيدةِ؛ كما تَجِدونَ الوقتَ لتُدقّقوا في كلِّ تفاصيلِ حياتِها!َ ليت أولادَ المبخوتةِ يجِدونَ أُمّاً تُعِدُّ لهم الطعامَ عندَ عودتِهم من مدارسِهم! وليت المبخوتةَ تعيشُ جزءاً من راحةِ بالِكم! وليتها تَتركُ لكم رُبعَ مسؤولياتِها كي تعيشَ.. !