Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
سياحة

من “عينِ السعادة” إلى “عينِ أمِّ الفرَجِ”

جولةٌ سياحيةٌ في عيونِ "حيفا"

تحقيق : السعادة

معظمُ مَن يعرفُ “حيفا”؛ بل وثلّةٌ ممّن يَسكنوها لا يَعلمونَ أنّ بينَ أحيائها تختبئُ عشراتُ العيونِ والينابيعِ؛ بعضُها جفَّ واختفَى؛ ولم نَعدْ نعرفُ عنه شيئاً؛ ولكنّ بعضَها لا يزالُ ينبضُ بالحياةِ والجمالِ؛ وينتظرُنا كي نزورَه ونستكشفَه.. مِثلَ “عينِ السعادة” التي نمرُّ عنها غالبًا ولا نَعرفُها، وعينِ “أمّ القصَب”، التي كانت تتميزُ بطعمِها البديعِ، وعينِ التينةِ وبستانِها الطبيعي البديعِ، وعينِ السيّاحِ، وعينِ أُمّ الفرَجِ التي لا تَنضَبُ حكاياتُها.. بالإضافةِ إلى عيونٍ أخرى..

إذا ما دخلْنا “حيفا” من الشرقِ؛ فإنّ ما يستقبلُنا عادةً؛ مَشاهدَ معاملِ تكريرِ النفطِ والمصانعِ (البتروكيميائية)، ولولا الكرملُ وتضاريسُه البديعةُ؛ لَما كان هناك حضورٌ إلا لأبراجِ التبريدِ القديمةِ في معاملِ التكريرِ، بالإضافةِ إلى المرافقِ الصناعيةِ والتجاريةِ .

 عينُ السعادةِ

د.”جوني منصور” الباحثُ في تاريخِ “حيفا”، يأخذُ “السعادة” في جولةٍ بينَ عيونِ وينابيعَ “حيفا”؛ فيَبدأُ بعينِ السعادةِ التي كانت حاضرةً بشكلٍ لافتٍ؛ فهي ليستْ مُجردَ نبعٍ عاديٍّ من حوالي (150) نبعًا موجودةً في جبالِ الكَرملِ؛ فقد كان لها أيامُ عزِّها؛ ولعلَّ اسمَها يكفي لذلك؛ ولهذا نجدُ حتى الدراساتِ الهيدرولوجيّةَ تشيرُ بأنّ المياهَ كان تتدفقُ منها بوتيرةٍ جيدةٍ؛ تصلُ إلى (22) لتراً في كلِّ ثانيةٍ؛ (80) كوباً في السنةِ)؛ ولهذا فإنها كانت في الماضي من أكبرِ عيونِ حوضِ وادي المُقطّعِ الذي صار يُسمَّى اليوم “قيشون” أو “كيشون” (التسمية الإسرائيلية).

والجديرُ ذِكرُه أنّ العينَ بدأتْ تستعيدُ شيئًا من حَيوِيّتها؛ فقد توقفتْ المياهُ عن الجريانِ فيها خلالِ أعمالِ حفرِ أنفاقِ الكرملِ؛ إلّا أنّ المياهَ عادت مؤخّرًا، وهناك أحاديثُ عن خُططٍ لإعادةِ ترميمِها.. وهي على كلِّ حال، تبقَى واحةً خضراءَ صمدتْ في وجهِ التغوّلِ العمراني الشرسِ؛ وتستحقُّ أنْ نزورَها.

من عينِ السعادةِ، ننطلقُ لنصعدَ إلى بقعةٍ بديعةٍ على ارتفاعِ (200) مترٍ عن سطحِ البحرِ؛ تُدعَى “قلعة روشميا”؛ وهي لا تقِلُّ أهميةً عن عينِ السعادةِ_ إنْ لم تكنْ أهمَّ_ فهي حاضرةٌ في مُعظمِ الخرائطِ القديمةِ كذلك؛ ومع ذلكَ فإنّ الطريقَ إلى القلعةِ قد لا يُوحي بذلكَ؛ بالأخَصِّ عندما ندخلُ بينَ البناياتِ المحيطةِ بالطريقِ إلى القلعةِ؛ ومع الوصولِ سنرَى المنطقةَ أيضًا مُهمَلةً؛ ولكنّ موقعَها الاستراتيجي المميزَ، يُخبِرُنا بالكثيرِ.

كانت قلعةُ “رشميا” تُستخدمُ لعملياتِ مراقبةِ الطرُقِ مُنذُ أيامِ البيزنطيين؛ وقد استخدمَها الصليبيونَ أيضًا؛ ومن بعدِهم المماليكُ استخدموها خانًا؛ ثُم استخدمَها أخيرًا “ظاهرُ العمرِ الزيداني”، والمثيرُ أنّ ارتفاعَها ليس وحدَه ما ميّزَها؛ بل قُربَها من أحدِ أهمِّ المواردِ المائيةِ في “حيفا” سابقًا، ويُقالُ أنَّ تسميتَها “روش مايا” من اللغةِ الآراميةِ؛ وتعني “رأسَ العينِ”؛ لقربِها من عينٍ تُدعَى “عينُ العليقِ”، _الاحتلالُ أطلقَ عليها اسمَ عيون “فارديا” بالعبرية_.

اختفَى بعضُها

مع أنّ العينَ ليستْ بنفسِ أهميةِ باقي عيونِ “حيفا”،؛ إلاّ أنها تَروي حكايةَ الكثيرِ من العيونِ التي أُهملتْ؛ ولم تُدمَجْ مع الأحياءِ المحيطةِ بها؛ فالوصولُ إليها من القلعةِ ليس سهلًا؛ علمًا بأنها في الماضي كانت مصدرَ المياهِ الرئيسَ للقلعةِ، وقد ذكرَ أحدُ الإنجليزِ الذين زاروا المكانَ؛ بأنّ عدداً من أشجارِ الزيتونِ المعمِّرةِ كانت في المكانِ؛ وأنّ بئرًا معروفةً هناك تُدعَى “بئر اليَشع”، كما أنّ الخرائطَ القديمةَ تشيرُ إلى وجودِ كرومِ العنبِ سابقًا في هذه المنطقةِ التي كانت تسمّى “أم العليق”، وأمّا اليومَ فلم يبقَ زيتونٌ ولا عنبٌ؛ وقد تغيّرتْ ملامحُ المكانِ بشكلٍ كبيرٍ؛ كما إنّ العينَ لم تَعدْ معروفةً لفئةٍ واسعةٍ من سكانِ “حيفا”؛ وكأنها غُيّبتْ هي الأُخرى مِثلَ عيونٍ كثيرةٍ جفَّ بعضُها، واختفى بعضُها الآخَر، سنَذكرُها لاحقًا.

عندَ الحديثِ عن عينِ أُم القصَبِ؛ لا بُدَّ أنْ نَذكرَ بأنّ هذه العينَ كانت من العيونِ التي يعتمدُ عليها سكانُ طيرةِ حيفا، وبلدِ الشيخ؛ فخلالَ البحثِ عن حكاياتِ هذا المكانِ؛ سنَجدُ شهادةً للحاجّةِ “لطيفة السهلي”؛ تُذكِّرُنا بعينِ السعادةِ، وعينِ أُمِّ القصبِ، فتقول :”عيونُ البلدِ كانت غامرةَ البلدِ بالمَيّ”؛ إلّا أنها تخصُّ عينَ أُمِّ القصبِ بالذكرِ قائلةً: “عين إم القصب؛ لَمّا كنت أشرب منها؛ تحسّ بطعمةِ القصب الحلو، ميّة عين أمِّ القصب طيّبة مثل السكّر”.

اليوم تقعُ هذه العينُ إلى الجنوبِ من حيّ “دانية”؛ وهو الحيُّ الذي يُعرفُ بحيِّ الأغنياءِ في “حيفا”، والمؤسفُ أنّ الطريقَ من هذا الحيِّ إلى العينِ ليست مُتاحةً؛ ولكنْ هناك مَسارُ مشيٍّ يبدأُ بالقربِ من جامعةِ “حيفا”؛ ويمرُّ قربَ ثلاثٍ من العيونِ الموجودةِ في هذا الوادي؛ وهي عينُ النضير، وعينُ أُمِّ القصبِ؛ وكِلاهما جفَّ؛ أو لم يَعدْ ينبعُ كما كان في سابقِ عهدِه، ولم يبقَ إلا عينُ المغارةِ (العينُ الشرقيةُ)؛ وهي العينُ التي كان يعتمدُ عليها أهالي “طيرة حيفا” للشربِ _يُطلقُ عليها عينُ كيديم بالعبرية_ .

بقعةٌ ساحرةٌ

تقعُ عينُ التينة؛ وهي عينٌ صغيرةٌ لم تذكرْها أكثرُ الخرائطِ والمصادرِ القديمةِ؛ ولكنّ المثيرَ أنها حاضرةٌ اليومَ أكثرَ من غيرِها على الخرائطِ السياحيّةِ؛ بل إنّ البعضَ يعدُّها بأنها مكانٌ ملائمٌ للسباحةِ، وهي قريبةٌ من أحدِ الطرُقِ المركزيةِ في “حيفا” طريق فرويد .

في حريقِ الكرملِ عامَ (2016)، احترقَ كلُّ ما في وادي أحوزا (وادي الريشة)؛ ومُنذُ ذلكَ اليومِ والوادي يتعافَى ببطءٍ، بَيدَ أنّ بقعةً ساحرةً بقيتْ في المكانِ؛ تختبئُ فيها عينُ التينةِ؛ وبِقُربِها بركةٌ تتجمّعُ فيها مياهُ الينبوعِ؛ وهي عبارةٌ عن “واحةِ هدوءٍ في قلبِ المدينةِ” ويُكمِلُ: “لا بُدّ أنْ نَنتبِهَ هنا إلى التناقضِ ما بينَ أشجارِ الصنوبرِ، التي تغطّي منحدراتِ الوادي، والبستانِ الطبيعي حولَ العينِ؛ فالأُولى (أشجارُ الصنوبرِ) تأذّتْ واحترقتْ؛ ولم يبقَ لها ذِكرٌ؛ بينما البستانُ الطبيعي بقيَ كما هو؛ كأنه لم ينشبْ هناك حريقٌ البَتّة”..

من عينِ التينةِ “الصغيرة”، ننتقلُ إلى محطتِنا الأخيرةِ_ ولعلّها أهمُّ محطةٍ_، بل إننا لو لم نَزُرْ غيرَها فسنجدْ هذا الوادي يُلَخّصُ كُلَّ الحكايا؛ فهناكَ بستانُ الخياطِ، ونباتُ الحلبلوبِ المميّز؛ وهناكَ عائلةُ أبو عباس الصامدةُ، كما نجدُ أدراجَ الكبابيرِ المعروفةَ، ومغارةَ الكَرمِليّينَ، والديرَ العتيقَ، وبدَلَ عينِ ماءٍ واحدةٍ سنَجدُ عينَ السيّاحِ، وعينَ أُم الفرَجِ؛ وهي من أشهرِ عيونِ حيفا والكَرمل .

تهجيرٌ قَسريٍّ

مع الوصولِ، لا يُفضّلُ الدخولُ بالمركبةِ حتى العينِ؛ مع أنّ ذلك مُمكِنٌ للمَركباتِ المُرتفعةِ؛ ولكنْ يُفضّلُ أنْ نتركَ المركبةَ عندَ مدخلِ الوادي؛ لنعيشَ التفاصيلَ كُلَّها، فهي كثيرةٌ؛ وأَوّلُ ما يُصادفُنا هناك هي بيوتُ “آل عباس” الذين سَكنوا هذه المنطقةَ قبلّ قدومِ الصهاينةِ والإنجليزِ؛ ومع ذلك تُحاولُ بلديةُ “حيفا” _منذُ أعوامٍ طويلةٍ_ تهجيرَ السكانِ بحُجّةِ إقامتِهم في منطقةِ مَحميّةٍ طبيعيةٍ؛ مع أنّ السُكانَ عاشوا في هذه المنطقةِ منذُ سنينَ طويلةٍ في تَناغمٍ مع الطبيعةِ؛ بل وعمّروا سفوحَ تلّةِ “فرش اسكندر” (كرميليّا اليوم)؛ وزَرعوها بكُلِّ ما تشتهي أنفسُهم؛ ولا تزالُ المُدرَّجاتُ الزراعيةُ تشهدُ على ذلك؛ حتى جاءَ الاحتلالُ وصارَ يُنازِعُهم على أرضِهم، وعمومًا فإنّ المعاركَ القانونيةَ قائمةٌ بينَهم وبينَ السلطاتِ الإسرائيليةِ.

ومَن زار الحيَّ؛ وزارَ المُصلّى الصغيرَ الذي أسَّسه الشيخُ “فايز أبو عباس” قبلَ وفاتِه؛ لا بُدَّ وأنْ يلتقيَ ببعضِ سكانِ الحيِّ؛ وسيَجِدُ لسانَ حالِهم: “نحن هنا باقون”.

من المُصلَّى، نمشي في مسارٍ صغيرٍ نحوَ بُستانِ الخياطِ؛ وهو أحدُ أشهرِ بساتين حيفا؛ وقد سُمي على اسمِ صاحبِه “عزيز الخياط”؛ وهو من أغنَى أغنياءِ “حيفا”، وهناك حكاياتٌ كثيرةٌ حولَ جَمعِه لثرواتِه الطائلةِ_ لن نخوضَ فيها هنا_ وسنكتفي بتَأمُّلِ هندسةِ الحديقةِ التي تجمعُ ما بينَ الحداثةِ والعراقةِ، فمِن جهةٍ هناكَ المساحاتُ الخرسانيّةُ التي تُجسّدُ الحداثةَ؛ وهناكَ التنوّعُ في أشجارِ التوتِ والتينِ والزيتونِ والنخيلِ التي تجسّدُ عراقةَ البساتينِ العربيةِ.

بِركةٌ بديعةٌ

إذا ما التفتْنا يميناً؛ سنَجدُ عينَ ماءٍ تَخرجُ من الصخورِ على طرَفِ الطريقِ؛ وتَتجمّعُ في بِركةٍ بديعةٍ؛ هذه هي عينُ السيّاحِ، ولو تأمّلنا جيداً سنَجدُ كائناتٍ سوداءَ على الصخورِ المُحيطةِ بالعينِ، لو اقتربْنا أكثرَ سنُدرِكُ أنها حلزوناتٌ؛ هذه الكائناتُ الحيّةُ البديعةُ يُصنِّفُها خبراءُ البيئةِ ضِمنَ “المؤشّراتِ الحيويةِ” ؛ فمن خلالِها يُمكِنُ أنْ نتعرّفَ على مستوى جودةِ المياهِ، فعندما نراها يُمكنُ أنْ نَستدِلَّ بأنّ المياهَ التي أمامَنا مياهٌ عذبةٌ غيرُ ملوّثةٍ؛ فهي حسّاسةٌ جدًا للملوثاتِ؛ ولا تعيشُ إلا في المياهِ العذبةِ، وهي الأخرى تستحقُّ أنْ نُعرِّفَها وتسمَّى “حلَزون المياهِ العذبة” .

من عينِ السيّاحِ، ننطلقُ إلى عينِ أمِّ الفرَجِ على صخورٍ كِلسيّةٍ بيضاءَ تشدُّ الانتباهَ، ومع الاقترابِ أكثرَ سنرَى بِركةً صغيرةً تتجمّع فيها مياهُ العين؛ وسنَرى أنّ هذه العينَ تَجذبُ السيّاحَ أكثرَ، فوجودُها بينَ أشجارٍ كثيفةٍ عاليةٍ؛ وبالقربِ منها “دَيرُ الرُّهبانِ الكَرمليِّين” الذين سكنوا المكانَ قبلَ حوالي (900) عامٍ، والمغارةُ المحفورةُ في الصخرِ؛ ومن فوقِها التجاويفُ البديعةُ في الصخرِ الأبيضِ الساطعِ؛ كُلُّها تجذبُ السيّاحَ؛ هذا غيرَ أنّ هذا المكانَ يرتبطُ بذِكرِ “النبي إيليا”؛ فحتى هذه العينُ تُسمّى في بعضِ المراجعِ بِنَبعِ النبيِّ إيليا، بينما التسميةُ الصهيونيةُ اليومَ للمكانِ هي “عينُ همشوططيم” على اسمِ رابطةٍ أسَّسها صهيوني يُدعَى “بنحاس كوهين”، أمّا أهلُ الحيِّ، وأهلُ حيفا فيَعرفونَ هذا النبعَ بـ “عين أُم الفرَجِ”؛ وهو ما تؤكّدُه الخرائطُ القديمة.

الحقيقةُ أنّ كنوزَ “حيفا” كثيرةٌ؛ بل إنّ نفسَ هذه الأماكنِ يُمكِنُ أنْ نعيشَها بشكلٍ مُختلفٍ؛ لو قُمنا بقَصدِها مشيًا على الأقدامِ؛ فيما يُعرفُ بـ”مسارات حيفا”، فالكثيرُ منها تمرُّ قُربَ العيونِ ومن وِديانِ بديعةٍ، تُشعِرُك وكأنها في غاباتٍ بديعةٍ.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى