“مهنةُ المُحاماة” و رحلةُ ال(6) سنواتٍ
تبدأُ الآنَ الجامعاتُ الفلسطينيةُ المَحليةُ ببذلِ أقصَى جهودِها؛ وتسخيرِ كافةِ إمكاناتِها الماديةِ والبشريةِ لاستقطابِ أكبرِ عددٍ مُمكِنٍ من الناجحينَ في الثانويةِ العامةِ للدراسةِ في رحابِها؛ تارةً من خلالِ حملاتٍ إعلاميةٍ وترويجيةٍ ضخمةٍ عبرَ (السوشيال ميديا)، أو من خلالِ توزيعِ (بروشورات) على أبوابِ المدارسِ يومَ إعلانِ نتيجةِ الثانويةِ العامةِ، وتارةً أخرى من خلالِ تنظيمِ رحلاتٍ استكشافيةٍ للجامعاتِ بالتعاونِ مع المدارسِ الثانويةِ؛ حيثُ يُعَدُّ انتسابُ الطالبِ للجامعةِ مصدراً يُدِرُّ عليها دخلاً من خلالِ الرسومِ الدراسيةِ التي يقومُ بدفعِها، حيثُ تُصنّفُ جُلُّ تراخيصِ هذه الجامعاتِ بأنها “ربحيةٌ”.
وفي ظِلِّ حالةِ الزخمِ الترويجي الذي يخضعُ له الطالبُ، والذي غالباً ما يرافِقُه تخفيضُ مفاتيحِ ومعدّلاتِ القبولِ للتخصصاتِ؛ لاستقطابِ أكبرِ عددٍ ممكِنٍ من الطلبةِ؛ يصابُ الطلبةُ بحالٍ من الحيرةِ والتردُدِ في تحديدِ واختيارِ تخصُّصِه الجامعي- ما لم تكنْ له رغبةٌ وقرارٌ مُسبقٌ، أو حُلمٌ بالانضمامِ لتخصصٍ ومِهنةٍ معيّنة، فنجدُ أنّ نِسبَ الإقبالِ الأعلى على التخصصاتِ؛ يستندُ على قوةِ الخُطةِ التسويقيةِ التي روّجتْ لها الكُليةُ؛ وتأثرَ الطلبةُ بها، وواقعياً، تشيرُ الإحصاءاتُ إلى نجاحِ كلياتِ الشريعةِ والقانونِ والحقوقِ في استقطابِ أعدادٍ كبيرةٍ جداً، وتثبيتِ حصّةٍ سوقيةٍ مرتفعةٍ لها من الطلبةِ؛ من خلالِ تركيزِها على مزايا مهنةِ المحاماةِ، والقيمةِ الاجتماعيةِ الراقيةِ التي تعطيها لحاملِها، وتركيزِها على إشاعةِ ارتفاعِ مستوى دخلِ المهنةِ، ومن خلالِ التركيزِ أيضاً على أنها مهنةٌ حُرةٌ تشاركُ السلطةَ القضائيةَ في استظهارِ الحقائقِ، وتقومُ على مساعدةِ الناسِ وتحقيقِ العدلِ.
ولكنْ في حقيقةِ الأمرِ، إنّ الواقعَ مُغايرٌ تماماً، والتخصُّصَ ذو طبيعةٍ صعبةٍ ومراحلَ شاقةٍ؛ تمتدُّ لسِتِ سنواتٍ من التعليمِ والعملِ الدءوبِ، ولا تَضمنُ نجاحَ مَن اجتازَها ورَقياً في نجاحِه بسوقِ العملِ؛ حيثُ يتمُّ الأمرُ ابتداءً من مرحلةِ الدراسةِ الجامعيةِ التي يختلفُ مُسمّى التخصصِ به من جامعةٍ لأخرى؛ حيثُ يُعرفُ باسمِ تخصُّصِ الشريعةِ والقانونِ في الجامعةِ الإسلاميةِ، ويُعرفُ بتخصّصِ الحقوقِ في جامعةِ الأزهرِ، وتخصّصِ القانونِ والممارسةِ القضائيةِ في جامعةِ فلسطين، والتي يتراوحُ سعرُ ساعتِها الدراسيةِ في الجامعاتِ ما بينَ (15.5 وحتى 20 ديناراً)، ويبدأُ معدّلُ القبولِ في جميعِ الجامعاتِ من (75%) فأكثرَ، ويتضمنُ (141) ساعةً دراسيةً على مدارِ (4) سنواتٍ دراسيةٍ؛ بواقعِ (8) فصولٍ دراسيةٍ، وتَغلبُ فلسفةُ كلِّ جامعةٍ على خُطتِها الدراسيةِ؛ فبالنظرِ لخطةِ الجامعةِ الإسلاميةِ؛ نَجدُ زخمَها بوجودِ مساقاتٍ شرعيةٍ كمتطلباتِ كُلية، ومتطلّباتِ جامعةٍ؛ في حين تستبدلُ هذه الساعاتُ في جامعةِ الأزهرِ وفلسطين بمساقاتٍ ذاتِ خلفيةٍ حقوقيةٍ وقانونيةٍ؛ بالإضافةِ لمتطلباتِ الجامعةِ الأخرى كمَساقِ القرآنِ واللغةِ الإنجليزيةِ مثلاً، وتتطلبُ هذه المرحلةُ الجِدَ والاجتهادَ والاطّلاعَ على دراساتِ الأبحاثِ المختلفةِ، والحاجةِ لمراجعةِ كلِّ ما يتِمُّ دراستُه أولاً بأولٍ، والتحضيرِ المُسبقِ لكُل محاضرةٍ؛ فطبيعةُ المساقاتِ كبيرةٌ، وكُتبُها عبارةٌ عن مجلّداتٍ أو عدّةِ أجزاءٍ في بعضِ الأحيانِ، ويلزمُ تقديمُ عروضٍ وشروحاتٍ يتمُّ استعراضُها أمامَ الجميعِ؛ بحيثُ يكونُ الطالبُ هو المدرّبُ والمشرفُ، ويلزمُ الطالبَ إتمامُ جميعِ المساقاتِ بنجاحٍ؛ ليتمكّنَ من التخرجِ ببكالوريوس شريعة وقانون/حقوق؛ ليبدأَ بعدَها بخَوضِ مرحلةِ التدريبِ والولوجِ في غِمارِ حياةٍ عمليةٍ شاقةٍ وجديدةٍ كُلياً، ومختلفةٍ عن الجانبِ النظري التأصيلي الذي درسَه على مدارِ (4) سنواتٍ جامعيةٍ، وتستمرُّ هذه المرحلةُ لمدةِ عامينِ دونَ وجودِ أيِّ عائدٍ ماديٍّ يرجعُ للطالبِ الذي يُسمّى بهذه المرحلةِ بمُحامي تحتَ التمرينِ، وتُشرفُ على هذه المرحلةِ نقابةُ المحامينَ الفلسطينيّينَ النظاميينَ؛ بحيثُ يقومُ الخريجُ بتقديمِ طلبٍ للانتسابِ للنقابةِ ودفعِ الرسومِ، وتقديمِ أوراقِه الثبوتيةِ، وشهادةِ حُسنِ سيرٍ وسلوكٍ، وطلبِ استيعابٍ لدَى مُحامٍ مزاولٍ مُدرّبٍ يوجدُ لدَيه شاغرٌ لتسجيلِ خريجينَ “محاميين متدربين” على اسمِه للتدرّبِ لديهِ بمَكتبِه؛ بحيثُ يكونُ هذا المدرّبُ قد أمضى(5) سنواتٍ في العملِ بالمهنةِ، ومسدّداً لرسومِه السنويةِ للنقابةِ وفقَ شروطِها؛ وتعدُّ هذه الشروطُ عائقاً كبيراً جداً، وأزمةً قائمةً مستمرةً أمامَ خرّيجي القانونِ في انتسابِهم للنقابةِ، ويستنزفُ شهوراً طويلةً منهم في انتظارِ حدوثِ شاغرٍ لدَى أحدِ المحامينَ؛ ليتمكنَ من استيعابِهم؛ نظرًا لكثرةِ عددِ الخريجين، ومحدوديةِ عددِ المحامينَ المُسدّدينَ للرسومِ مقارَنةً بهم، ويلتزمُ المتدرّبُ بالنزولِ للمحكمةِ، وحضورِ جلساتٍ، والاطّلاعِ على ملفاتِ قضايا من خلالِ مكتبِ محاميهِ المدرّبِ طوالَ العامينِ للحصولِ على أكبرِ درجةٍ ممكِنةٍ من الخبرةِ، والاستفادةِ في الجانبِ القانوني للمنازعاتِ المَدنيةِ والجزائيةِ المختلفةِ، وجانبِ المهنةِ من حيثُ كيفيةِ التعاملِ مع زملائه المحامينَ، وكيفيةِ استقبالِ والتعاملِ مع الموَكّلينَ، وطريقةِ إدارةِ مكتبِ المحاماةِ ذاتِه، وأرشَفةِ قضاياهُ بالشكلِ الصحيحِ، ومن الضروري بهذه المرحلةِ الحفاظُ على الانضباطِ بالسلوكِ، وبناءِ سمعةِ حسنةٍ لدَى القضاةِ وزملاءِ المهنةِ، وكذلك الاطّلاعُ المكثّفُ على كافةِ القوانينِ المحليةِ، مِثلَ القانونِ الأساسي الفلسطيني، وقانونِ العملِ والتحكيمِ والتأمينِ، والقانونِ المَدني وغيرِه؛ كونَه النافذَ في المحاكمِ، وتُختتمُ هذه المرحلةُ بتقديمِ امتحانٍ شفوي؛ عبارة عن مقابلةٍ، وامتحانٍ تحريريّ، وتقديمِ بحثٍ عِلمي بعدَ انتهاءِ العامينِ؛ ثُم يقومُ المتدربُ بدفعِ رسومِ المزاولةِ، وحلفِ اليمينِ القانونيةِ لمزاولةِ مهنةِ المحاماةِ، والحصولِ على شهادتِها بشكلٍ رسميّ.
وهكذا تكونُ قد مضتْ ستُ سنواتٍ من التعليمِ والتدريبِ، ويحتاجُ المحامي البدءَ بعدَ انتهائها في تدشينِ مكتبٍ خاصٍّ به، وبدءِ استقبالِ موكّلينَ، والعملِ في المهنةِ في حالِ حصلَ على المزاولةِ؛ ومع ذلك فإنّ اجتيازَه لجميعِ ما سبق بنجاحٍ؛ لا يعني نجاحَه في المهنةِ، فطبيعةُ المهنةِ تعتمدُ على وجودِ مهاراتٍ وقوةِ شخصيةٍ لدَى المحامي، ومدَى لباقتهِ وذكائه في استثمارِ علاقاتِه ومعارفِه في تجنيدِ سمعةِ ووكلاء له، بالإضافةِ لِحُسنِ معاملتِه لموَكّليهِ والتزامِه بالأمانةِ والحفاظِ على سريةِ المعلوماتِ التي يحوزُها، وسلامةِ الإجراءاتِ القانونيةِ التي ينفّذُها، وإخلاصِه في عملِه، وانضباطِه بحضورِ جلساتِ ملفّاتِه، واتخاذِه لمقرِّ مكتبٍ في مكانٍ مناسبٍ ذي شكلٍ لائقٍ؛ إضافةً إلى سِمةِ الجرأةِ وسعةِ الاطّلاعِ على كلِّ المُستجداتِ والقراراتِ والقوانينِ المحليةِ، والتمَكُنِ منها؛ والذي يعدُّ العاملَ الأولَ لنجاحِ أيِّ محامي، بالتزامنِ مع الاطّلاعِ على القوانينِ المجاوِرةِ، وبناءِ ثقةٍ واحترامٍ متبادلٍ مع السادةِ القضاةِ وموظفي المَحكمةِ، وقدرتِه على التكيّفِ والصبرِ والتعاملِ مع فئاتٍ مختلفةٍ ومتضادةٍ في المجتمعِ، وإيمانِه بأنّ عملَه رسالةٌ يُلزِمُه بمساهمةٍ مجتمعيةٍ ذاتيةٍ تُجاهه؛ يلتزمُ بأدائها بالشكلِ الذي يراهُ مناسباً له.
فلا تَخدعْكم الجامعاتُ بجمالِ التخصصِ.. فالواقعُ مختلفٌ، إنْ لم تكنْ رغبتُكَ بالتخصصِ كبيرةً، ودافعُها ذاتياً، أو كانت شخصيتُك متحفِظةً أو ضعيفةً، ولا تستطيعُ الوقوفَ أمامَ الجمهورِ، إياكَ وتخصُّصَ القانونِ!