حُزنُنا قوةٌ
“حزنُنا قوةٌ”، كلمتانِ خفيفتانِ قويتانِ؛ تَحملانِ التضادَّ النفسيَّ؛ شدّتا انتباهي في مقطوعةٍ نثريةٍ تفوحُ بالحبِّ والشوقِ؛ خطّها فؤادُ صديقةٍ ودّعتْ حبيبَها شهيداً ،كيف يكونُ الحزنُ قوةً، وفي بلادِ غيرِنا يكونُ عِلّةً لانهيارِ القوةِ ، وعندَ بعضِهم يكونُ نهايةَ الحياةِ ؟
كيف استطاعتْ نِسوةُ مديتِنا_ تلكَ الشابّاتُ المُحبّاتُ للحياةِ_ أنْ يصنعنَ من حُزنِهنَّ لبوسَ قوةٍ وسطَ أمواجِ الفقدِ العاتيةِ، خلالَ سنواتٍ طوالٍ من عامِ نكبتِنا؛ حتى عامِ سيفِ قدسِنا؟
كيف استطاعتْ “آية” وقريناتُها؛ كُلّما حرقَ فؤادَهن الشوقُ؛ حوَّلنَ رمادَ قلوبِهنَّ لقوةٍ، فلا مجالَ للانكسارِ، ولا سبيلَ سِوَى المُضيِّ حتى آخِرِ المسيرِ؛ للقاءٍ قريبٍ بعيدٍ ولكنه الأبَدي؟
فالحزنُ والقوةُ في مدينتِنا لا يوجَدانِ فقط في إطارِ صورةِ أميراتِ الحورِ زوجاتِ شهدائنا العظامِ،
فهناكَ صوَرٌ أخرى.. فبُيوتُ مدينتِنا كُلّما حَبُلتْ بالحزنِ أنجبتْ قوةً .
كنتُ بالأمسِ أتلَمّسُ أسماءَ طلابِ التوجيهي_ من ذَوي الاحتياجاتِ الخاصةِ_ لتكريمِهم؛ فقد حصلوا على علاماتٍ عاليةٍ ضلَّ غيرُهم من الأسوياءِ سبيلَ الحصولِ عليها ، فوجدتُ كَمّاً من القصصِ و الحزنِ، وكمّاً آخَرَ أكبرَ من القوةِ، وكَمّاً أكبرَ وأكبرَ من الفرحِ .
كم كان حزنُ أرواحِهم؛ كُّلما تاقتْ رغباتُهم لمشاركةِ أقرانِهم تفاصيلَ مراحلِ أعمارِهم؛ ولكنْ سرعانَ ما تبدّلَ حزنُهم قوةً بخطواتٍ أسرعَ للأمامِ !
وكم كان حزنُ قلوبِ أبائهم وأمهاتِهم على ما قدَّرَه اللهُ لأبنائهم؛ رصيدَ قوةٍ لِسَحبِ أياديهِم لِبرِّ التميُّزِ والنجاحِ ..!
وفي صورةٍ أخرى كتبتْ إحدى المُثقفاتِ في مدينتِنا على صفحتِها على “الفيس بوك”؛ أنها حصلتْ على مُعدّلٍ عالٍّ في التوجيهي؛ ولكنّ الظروفَ الماليةَ المُتعثرةَ لأهلِها؛ جعلتها ترفضُ الالتحاقَ بالجامعةِ؛ مع أنّ والدَيها
أصَرَّا على استدانِة المالِ؛ ليتَسنَّى لها إكمالَ تعليمِها؛ فانتصرَ رفضُها، لتبدأَ بحفظِ القرآنِ، وتعملَ مُحفِّظةً في أحدِ مراكزِ التحفيظِ؛ وتدَّخِرَ ذلك المُقابلِ البسيطِ التي تتقاضاهُ؛ ليساعدَها في تكاليفِ الدراسةِ، ثُم قامت بتثبيتِ حفظِها للقرآنِ؛ لتحصلَ على المِنحةِ الجامعيةِ، وتُجدِّدَ حصولَها عليها طوالَ سنواتِ دراستِها الأربعةِ، وتضيفَ أنها كانت عصاميةً؛ فلم تكلّفْ أهلَها شيئاً خلالَ رحلةِ دراستِها.
وفي إطارِ صورةٍ أخرى في مدينتِنا مدينةِ الحزنِ والقوةِ:هناك في زعترة في رحاب بركة منتصر شلبي، يتفوق ابنه أحمد في التوجيهي بعد ذهاب السند والعضد في زنازين المحتل وهدم سكن وأُنس العائلة، لتصبح ذكرياتهم ركاماً.. ركاما يخرج منه برقية قوة ونصر وليس ببعيد صفاء ابنة ذاك الأشم عبد الله البرغوتي، تخرج للعالم متباهية بتفوق يغيظ عدو والدها وعدو الوطن
وغيرها كثر في مدينتنا خرجوا كالعنقاء من وسط رماد الحزن أبناء الخالدين شهداء جهادنا ومقاومتنا مي ومنى همام العمرين، سارة الزبدة، ونور يوسف أبو هين، و لينا أيمن أبو هين، واية محمد أبو شمالة، وعبد الرحمن أبو بكرة ، تسنيم محمود فروانه، وغيرهم لوحوا بشارة النصر بعد أن قرأوا الفاتحة على ضريح أباءهم الشهداء …
حدّثَني زوجي حينما كان رئيساً للجنةِ منحةِ القرآنِ في الجامعةِ التي يعملُ فيها؛ أنه تقدّمَ طالبٌ لنَيلِ مِنحةِ القرآنِ؛ وبعدَ ما حصلَ على منحةٍ (50%)؛ سألَه عن أخيهِ الذي تَقدّمَ في العامِ السابقِ لنَيلِ ذاتِ المِنحةِ؛ فردَّ عليه أنّ والدَهم لا يَقدِرُ على تكاليفِ تعليمِهم؛ فاتّفقا معًا أنْ يتناوَبا على العملِ والدراسةِ؛ فصلٌ يعملُ هو ويَدرسُ أخوهُ؛ والفصلُ الذي يليهِ يدرسُ هو ويعملُ أخوهُ ليُوفّرَ له تكاليفَ الدراسةِ.
ما زالت الصوَرُ على حوافِّ شوارعِ مديتِنا تنطقُ بالقوةِ كشعاعِ أملٍ وسطَ ركامَ حزنٍ:في مدينتِنا مجموعةُ شبابٍ ناطَحتْ هِمَّتُهم عنانَ السماءِ؛ فكانت تشتعلُ قلوبُهم غضبًا وحزنًا كُلّما رأَوا الاحتلالَ يزيدُ في غطرستِه وهتكِ كلِّ مقدّراتِ الوطنِ؛ فوجدوا كلّما تَقدَّموا في أدائهم المقاوِمِ من الحجرِ والسكينِ والزجاجةِ الحارقةِ إلي “الكلاشنكوف”؛ أنه لابدَّ للمحتلِّ أنْ يُعاقَبَ في عقرِ سكناهِ؛ فكانت فكرةَ الصواريخِ التي صُنعتْ في البدايةِ من مكوّناتٍ بدائيةٍ، والتي تعثّرتْ كثيرًا، وارتقَى إلي اللهِ منهم شهداءُ كُثر في صناعتِها وتطويرِها، وتَنمَّرَ على قوّتِها وتأثيرِها الكثيرونَ ممّن فقدوا الانتماءَ والوطنيةَ، ووصفوها بالعَبثيةِ وصواريخِ الصفيحِ؛ لِتكونَ في آخِرِ المطافِ القوةَ الوحيدةَ التي قهرتْ المحتلَّ، وثأَرتْ للقدسِ وأهلِه، وحافظتْ على الأرضِ والعِرضِ؛ فذاعَ صِيتُها عندَ العربِ والعَجمِ .
كم هي كثيرةٌ تلكَ المُعلّقاتُ على جدرانِ مدينتِنا العتيقةِ القويةِ! فسلامٌ على مدينةِ الحزنِ والقوةِ .