يأتي شهر الرحمة ونحن متعطشون له ولأجوائه وإيمانيته، ولكن ثقافة الاستهلاك تحولنا إلى مسرفين لنزداد شراهة وإسراف؛ فخلالَ ثلاثينَ يوماً تنفقُ الأسرةُ ميزانيةَ تسعينَ يوماً وهذا ما تثبته كميةِ الأطعمةِ والمستلزماتِ الغذائيةِ التي تشتريها الأُسَرُ استقبالاً للشهرِ الفضيلِ، فلماذا نتحوّلُ في “رمضان” إلى مسرفين بامتياز!، فكيف نتخلصُ من هذه الظاهرةِ المؤذيةِ اجتماعياً واقتصادياً.
أبو وسام العمري “60عاما” يقولُ لـ”السعادة”:” ثقافةُ المجتمعِ السائدةُ تجعلُ شهرَ رمضانَ يشكّلُ عبئاً اقتصادياً على كاهلِ الأُسرِ الغزيّةِ، وتحوِّلُنا إلى مستهلكينَ من الدرجةِ الأولى؛ حيثُ يتضاعفُ فيه المصروفُ اليوميّ للأُسرةِ بنسبةٍ تصلُ إلى (100%) مقارنةً بالمعدلاتِ الطبيعيةِ في الأشهرِ الأخرى.
ودلّلَ “العمري” على وجهةِ نظرِه؛ بأنّ مصاريفَ شهرِ “رمضان” تختلفُ تماماً عن باقي الأشهرِ؛ من حيثُ نوعيةِ الأطعمةِ والحلوياتِ والمشروباتِ التي تُقدَّمُ على موائدِ الإفطارِ، وعدمِ الاكتفاءِ بصنفٍ واحدٍ على المائدةِ، مشيراً إلى أنّ أسرتَه المكوّنةَ من (8) أفرادٍ يَلزمُها مصروفٌ يوميٌّ للطعامِ في شهرِ رمضانَ؛ لا يقلُّ عن (100) شيكل بحدٍّ أدنَى!.
شهر الاستهلاك
ونوّهَ “العمري” إلى أنه بجانبِ هذا المصروفِ اليوميّ؛ يجبُ عليه توفيرُ ميزانيةٍ أخرى مخصَّصةٍ للعزائمِ والولائمِ التي يتميزُ بها شهرُ “رمضان”، وتوفيرُ ميزانيةٍ لزيارةِ صلةِ الرحمِ والأقاربِ.
بينما تقولُ جيهان مطر “40 عاماً: “رمضان” شهرُ الاستهلاكِ بجدارةٍ! فالمائدةُ غالباً ما تَحوي صِنفَينِ من الطعامِ أو أكثرَ، يَتبَعُها العصائرُ والفواكهُ، فالمسؤولياتُ والتكاليفُ لا تتوقفُ على الأُسرةِ في المنزلِ فقط، بل يَتبعُها عزائمُ “رمضان” وزياراتُها؛ وهذه الاحتياجاتُ جميعُها تُحوِّلُنا إلى مستهلكينَ شرِهينَ.
وتضيفُ: الأسعارُ مناسِبةٌ ومقبولةٌ، وليس هناك استغلالٌ من التجارِ، ولكنّ مراكزَ التسوّقِ باتت تدركُ نقاطَ ضعفِنا، وأننا مجتمعٌ مستهلِكٌ لاسيّما في المواسمِ؛ لذا لا تبخلُ علينا بالعروضِ التي تشجِّعُنا على الإنفاقِ وشراءِ السلعِ بكثرةٍ؛ للاستفادةِ من العروضِ الاستهلاكيةِ سواءٌ كُنا بحاجةِ إلى هذه الأصنافِ أو لم نكُنْ.
أمّا أُم أسامة الحلو “49 عاماً “، فتعترفُ لـ “السعادة ” أنها من أُسرةٍ مستهلِكةٍ تصرفُ خلالَ “رمضان” أضعافَ راتبِها بثلاثِ مراتٍ؛ مُجاراةً للعاداتِ السيئةِ والثقافةِ الشرائيةِ الخطأِ، فتقولُ:” قُبيلَ حلولِ الشهرِ بأيامٍ؛ أقومُ بتدوينِ قائمةٍ طويلةٍ لا تنتهي لاحتياجاتِ “رمضان”؛ أُعطيها لزوجي ليشتريها.. وأحياناً نقومُ بالتسوقِ معاً، والغريبُ أننا لا نكتفي بالمُدوَّنِ.. وعادة ما نشتري أشياءً أخرى نراها في السوق!.
وتُرجِعُ “الحلو” سلوكَها الاستهلاكيَّ الخاطئَ من الأطعمةِ والحلوياتِ والمشروباتِ؛ واقتناءَها سلعاً _قد لا نحتاجُها_ إلى أنّ شهوةَ نفسِ الصائمِ تتزايدُ إلى أعلَى حدودِها، منوِّهةً أنها ليست وحدَها صاحبةُ سلوكٍ استهلاكيٍّ؛ فعندَ ذهابَها إلى محلاتِ السوبر ماركت الكبيرةِ ” المولات “؛ تشاهدُ إقبالاً كبيراً من المواطنينَ في ظِلِّ تكثيفِ حملاتِها الدعائيةِ وعروضِها الكبيرةِ على السِّلعِ والموادِ الغذائيةِ.
من جانبِه يقولُ الدكتور “خليل النمروطي”، خبيرُ الاقتصادِ والتجارةِ من الجامعةِ الإسلامية:” إنّ فلسفةَ الصومِ تقومُ في الأساسِ على التقشُفِ، والتعالي على الرغباتِ والغرائزِ، لكنّ الاستهلاكَ ظاهرةٌ غيرُ صحيّةٍ، وغيرُ حضاريةٍ؛ نَتجتْ عن مفهومٍ خاطئٍ “لرمضان”، وتَصوُّرٍ مغلوطٍ للجوعِ والعطشِ، ما يجعلُ الناسَ يُقبِلونَ بغيرِ وعيٍّ على الشراءِ بكثرةٍ!؛ وهذا يخالفُ المفهومَ الصحيحَ لفكرةِ الصيامِ الصحيحةِ”.
يضيفُ: معدَّلاتُ استهلاكِ المنتَجاتِ الغذائيةِ عادةً ما ترتفعُ كثيرًا قبلَ وأثناءَ الشهرِ الفضيلِ، وتشيرُ الإحصاءاتُ والتقديراتُ إلى ارتفاعِ استهلاكِ الغزيِّينَ خلالَ شهرِ “رمضان” إلى (130%) عن استهلاكِهم خلالَ الشهورِ الأخرى! في حين أنّ الصعودَ الطبيعيَّ للاستهلاكِ؛ أنْ يزيدَ بين (10% و15%) خلالَ “رمضان” عن غيرِه من الأشهرِ؛ بما ينسجمُ مع طبيعةِ المسلمينَ وحبِّهم لإكرامِ الأهلِ والضيوفِ والجيرانِ والفقراءِ.
ثقافة منتشرة
يضيفُ: هناك زيادةٌ حقيقةٌ في الطلبِ في “رمضان”؛ وخاصةً أوائلَ الشهرِ الكريمِ، بينما في أواخِرِ “رمضان” ينشغلُ الناسُ بالعبادةِ والاستعدادِ لموسمِ العيدِ؛ لذا يُحضِّرُ التجارُ والبائعونَ أنفسَهم “لرمضان” بزيادةِ العروضِ والأصنافِ؛ وبالتالي لا يوجدُ مُبرِّرٌ لارتفاعِ الأسعارِ بحُجةِ زيادةِ الطلبِ، ولا ينبغي أنْ يرتفعَ السعرُ؛ لأنّ العرضَ أيضًا يزيدُ، وأرباحَ البائعينَ ينبغي أنْ تكونَ من زيادةِ الكميةِ المُباعةِ؛ وليست من رفْعِ السعرِ؛ لأنّ من يَبِعْ كميةً أكبرَ يكسبْ أكثرَ.
ويُرجعُ “النمروطي” الاستهلاكَ الزائدَ إلى غيابِ الوعيِّ، ويؤكّدُ مخالفةَ الإنسانِ لطبيعتِه البشريةِ؛ التي أساسُها احترامُ النعمةِ والقيمةِ الغذائيةِ التي تَوفَّرتْ له؛ بينما حُرمَ منها الآخَرونَ، موضّحاً أنّ “إهدار المالِ والنعمةِ والثرواتِ سلوكٌ غيرُ حضاري، ويَلزمُ علينا كأفرادٍ توضيحُ خطورةِ هذا الأمرِ القائمِ؛ فهو لا يدعو للفخرِ والتباهي، ولابدَّ من وجودِ قناعاتٍ فكريةٍ كمرحلةٍ أُولَى للتغييرِ؛ بأنّ ما يَحدثُ هو نوعٌ من أنواعِ الهمجيةِ والعبثِ مع المالِ والنِّعمِ، كذلك فإنَّ هذه الظاهرةَ لا تَصدرُ إلّا من إنسانٍ جاهلٍ غيرِ قادرٍ على إدارةِ الثرواتِ، ومصادرِ البنيةِ التحتيةِ والأمنِ الغذائيّ.
وينوِّهُ “النمروطي” إلى أنّ ظاهرةَ الإسرافِ في المأكلِ والمشربِ ظاهرةٌ لافتةٌ، ترعاها وسائلُ الإعلامِ، مراكزُ التسوقِ الكبيرةُ، والمطاعمُ، والشركاتُ، ومواقعُ التواصلِ الاجتماعيِّ؛ التي جعلتْ المشتركينَ فيها يحرصونَ على تكبيرِ الموائدِ وتزيينِها من أجلِ التقاطِ صورةٍ هنا وهناك، فأصبحتْ ظاهرةً في المجتمعِ، وأصبح ارتباطُ “رمضان” بالأكلِ ارتباطًا وثيقاً، حتى اقترنتْ بعضُ الأطعمةِ والمشروباتِ بهذا الشهرِ دونَ غيرِه.
ويضيفُ “النمروطي” أنّ نسبة لا باس بها سكانِ القطاعِ يعيشونَ تحتَ خطِّ الفقرِ؛ لكنَّ هذا لا ينفي تهمةَ أننا مجتمعٌ استهلاكيٌّ؛ إذْ أنَّ كلَّ ما تجنيهِ الأُسرُ من مواردَ ماليةٍ تُنفَقُ في جهةٍ واحدةٍ؛ وهي استهلاكُ الأطعمةِ والموادِ الغذائيةِ، والألبسةِ، والقهوةِ، والسجائرِ، فعلى سبيلِ المثالِ احتياجُ غزةَ شهرياً من الدواجنِ قُرابةَ (40) مليونَ دولارٍ، بينما تستهلكُ شهرياً من القهوةِ خمسةَ ملايينِ دولارٍ، فيما تَستهلكُ (37) مليونَ دولارٍ من السجائرِ.
من جانبِه يقولُ الاختصاصي الاجتماعي محمود عبد العزيز منصور:” إنَّ “رمضان” لم يَعُدْ فقط شهرَ العباداتِ والروحانياتِ؛ بل قلبتْهُ التكنولوجيا الحديثةُ، وتَغيُّرُ المجتمعِ إلى شهرِ المأكولاتِ والمشروباتِ، ومضاعفةِ الاستهلاكِ؛ فخلالَ ثلاثينَ يوماً تنفقُ الأسرةُ ميزانيةَ تسعينَ يوماً _حسبَ بعضِ التقديراتِ_ ؛ لذا يجبُ على الأسرةِ أنْ تُخطِّطَ بصورةٍ سليمةٍ لمقابلةِ الظروفِ الماليةِ والالتزاماتِ في “رمضان”، منوِّهاً أنّ الدورَ الأكبرَ يقعُ على عاتقِ المرأةِ في تدبيرِ منزلِها بما يتناسبُ مع دخلِ زوجِها.
نصائح وإرشادات
ويرى “منصور” أنّ التخلّصَ من عادةِ الاستهلاكِ المُسرِفِ يتطلبُ من الأسرةِ إتّباعَ بعضِ النصائحِ والخطواتِ في محاولةٍ لحفظِ النعمةِ، وعدمِ إهدارِ المالِ على الأطعمةِ والمشروباتِ التي تنتهي في الغالبِ في حاوياتِ النفاياتِ، لاسيّما مع عدمِ وجودِ كهرباءِ لحفظِ ما تبقّى من الأطعمةِ داخلَ الثلاجاتِ؛ لِذا على الأسرةِ أنْ تُخطِّطَ مُسبقاً للمشترياتِ، بتخصيصِ مبلغٍ شهريٍّ لشراءِ السلعِ الغذائيةِ، ووضعِ قائمةِ المشترياتِ التي تريدُها الأسرةُ مع الالتزامِ بها، إلى جانبِ اختيارِ وقتِ التسوّقِ المناسبِ ، حيثُ من المُستحسَنِ ألّا يتسوقَ الصائمُ قبلَ الإفطارِ؛ لأنَّ الشعورَ بالجوعِ يدفعُه إلى شراءِ مالا يَلزمُ ؛ إضافةً إلى التسوقِ في الأيامِ الأولى من “رمضان”؛ وليس قبلَ رمضان؛ حتى تَجدَ الوقتَ المناسبَ لاختيارِ ما تريدُ من السلعِ ، ويَنصحُ “منصور” غالبيةَ العائلاتِ بعدمِ الانسياقِ وراءَ العروضِ، والتي تُجبرُك _بالعادة_ على شراءِ كميةٍ من صنفٍ مُعيَّنٍ؛ مقابلَ تخفيضٍ مُعيّنٍ.
ويتابعُ : على سيدةِ المنزلِ أنْ تُخطِّطَ لكافةِ أيامِ الشهرِ، فمن الجميلِ أنْ تتشاورَ مع العائلةِ لاختيارِ الوجباتِ والأطعمةِ حسبَ ذوقِ العائلةِ، ووضعِها في جدولٍ موزَّعٍ على ثلاثينَ يوماً؛ في محاولةٍ لإرضاءِ الجميعِ، ويُفضّلُ أنْ يُعَدَّ الجدولُ قبلَ “رمضان” مع الالتزامِ الكاملِ بتطبيقِه ، داعياً الرجالَ إلى ضرورةِ التخلصِ من عادةِ التسوقِ قبيلَ أذانِ المغربِ؛ والتي عادةً ما تَجلبُ مُشترَياتٍ لا حاجةَ لها، فغالبيةُ الرجالِ بقطاعِ غزةَ لا يعودُ إلى المنزلِ إلاّ وهو يحملُ ” الخرّوبَ، والجرجيرَ، والفجلَ، والقطايفَ، والفلافلُ المحشيةَ، والحمُّصَ” في حين أنّ هذه الأشياءَ موجودةٌ في المنزلِ ، ويعودُ في اليومِ الثاني إلى شراءِ نفسِ الأشياءِ !؛ فتضطَّرُ ربّةُ الأسرةِ إلى التخلصِ منها عبرَ النفاياتِ .
وينصحُ “منصور” الأُسرَ أنْ تتعاملَ مع شهرِ “رمضان” مِثلَ الشهورِ الأخرى؛ بمَعنى ألّا نجعلَ لشهرِ “رمضان” خصوصيةً استهلاكيةً مُعيّنةً متميّزةً بشراهةِ الشراءِ والاستهلاكِ، وعليهم ترتيبُ أولوياتِهم، ووضْعُ ميزانيةٍ على قدْرَ حاجتِهم، وعدمُ الالتفاتِ إلى الإعلاناتِ الترويجيةِ والتخفيضاتِ بمناسبةِ شهرِ “رمضان”؛ لأنّ جميعَها تستهدفُ أكبرَ كميةٍ للبيعِ، مُتمنياً للمُستهلِكِ أنْ يستغِلَّ العروضَ المميزةَ؛ ويشتريَ ما يحتاجُه بدونِ إسرافٍ، والابتعادَ عن المباهاةِ ومحاولةِ تقليدِ الغيرِ.
مجتمعٌ استهلاكيٌّ
لماذا تَحوَّلْنا إلى مجتمعٍ استهلاكيٍّ؟ يُجيبُنا اختصاصيُّ الاقتصادِ “محمد أبو جيّاب” نحن مجتمعٌ استهلاكيٌّ بامتياز، بل إنَّ الاستهلاكَ بات منظومةَ مجتمعِ قطاعِ غزةَ بشكلٍ كاملٍ؛ حتى اقتصادَها يقومُ على مفهومِ الاستثمارِ الاستهلاكي، وغيابَ الاستثمارِ الإنتاجيّ الذي يهدِّدُ بتقليصِ فُرصِ تشغيلِ العمالةِ، والتنميةِ المستدامةِ، والبناءِ الاقتصاديّ على أساسِ الإنتاجِ في المدَى البعيدِ.
ويبيِّنُ أبو “جياب” أنّ المستثمرينَ يتركونَ القطاعَ الإنتاجيّ مُتجِهينَ إلى القطاعِ الاستهلاكي؛ لأنهم يَجِدونَ خطورةً مطلَقةً في الاستثمارِ الإنتاجيّ؛ بسببِ تضييقِ الاحتلالِ الإسرائيليّ على المستثمرينَ، ومنعِهم من إدخالِ الموادِ الخامِ اللازمةِ في العمليةِ الإنتاجيةِ، ومنعِ أو تعقيدِ المنتَجاتِ الفلسطينيةِ من التصديرِ إلى الخارجِ، إضافةً إلى أزمةِ الكهرباءِ التي يعاني منها أهالي قطاعِ غزة.
وينوِّهُ إلى أنّ الاستهلاكَ أكثرُ من الإنتاجِ؛ ما أضعفَ من قوةِ الاقتصادِ الفلسطينيّ، وحوّلَنا إلى مجتمعٍ استهلاكيٍّ (120%)، وأنّ ذلك الأمرَ يُفاقمُ من عجزِ الموازنةِ العامةِ للدولةِ، وعجزِ الميزانِ التجاريّ لها.