Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

حراسُ الجبل

بقلم: الكاتبة دعاء عمار

تشتعلُ الضفةُ المحتلةُ هذه الأيام، مظاهراتٍ وفعالياتٍ؛ يجرُّ بعضُها بعضاً، تخرجُ فيها النساءُ والرجالُ كما هو المعتادُ على حدٍّ سواء، لن أتحدّثَ هنا عن طبيعةِ الأحداثِ أو مدَى قدرتِها على الصمودِ والاستمراريةِ في المستقبلِ؛ لكنْ لفتَ انتباهي أمرانِ أكثرُ من غيرِهما.

الأولُ إثباتُ كذبِ الاتفاقياتِ الموَقّعةِ؛ التي طالما تَغنَّى بها أربابُ السلطةِ عن حقوقِ المرأةِ و”سيداو”، ومناهضةِ العنفِ ضدّ النساءِ، وكلِّ الحركاتِ النسويةِ اللواتي صرعنَ بها رؤوسَنا مجتمعياً، وكانت تقفُ خرساءَ دائماً عندَ اعتداءِ الاحتلالِ على النساءِ في القدسِ أو غزةَ أو غيرِها من مناطقِ فلسطينَ المحتلةِ.

تلك الاتفاقياتُ التي عارضَها كثيرٌ؛ واتّفقَ معها البعضُ على اعتبارِ أنها لازمةٌ لضمانِ حقوقِ النساءِ الفلسطينياتِ، ورفعاً لمكانتِهنَّ، وإثباتاً لمشاركتِهنَّ في الحياةِ العامةِ بما يتناسبُ مع دورهِنَّ الريادي في المقاومةِ بكافةِ أشكالِها منذُ زمنٍ طويلٍ، لم تتمكنْ تلكَ الاتفاقياتُ ولا أصحابُها من الصمودِ أمامَ الاختباراتِ الحقيقةِ على أرضِ الواقعِ.

ببساطةٍ، لأنهم يريدونَ تمكينَ النساءِ في الاتجاهِ الخاطئِ؛ ولن أستفيضَ فيه.. وأيضاً لأنّ له من الإيجابياتِ والسلبياتِ ما يجعلُ الحديثَ عنه في عجالةٍ أمراً غيرَ سليمٍ؛ ولكنّ كلَّ تلكَ البنودِ التي تضمنُ عدمَ ممارسةِ العنفِ ضدَّ النساءِ، وحمايةَ القوانينِ الدوليةِ لهنَّ في المشارَكةِ وإبداءِ الرأي، وكافةِ الحقوقِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ والثقافيةِ والاجتماعيةِ الأخرى، توقفتْ بل وانهارتْ عندما رأينا أفرادَ الشرطةِ بِزيِّهم المَدني وحتى العسكريّ؛ يعتدونَ على الصحفياتِ والناشطاتِ في كلِّ مرّةٍ يكونُ فيها حراكٌ مؤيّدٌ أو مُعارضٌ لأمرِ ما في الضفةِ المحتلةِ.

من السيِّئِ أنْ تكونَ الحقوقُ _فقط_ مضمونةً لمَن يتَّفِقُ معك! لن أقولَ سياسياً؛ فالأمرُ تعدَّى الاختلافَ السياسي، وإنما لمَن يؤيِّدُك في منهجيتِك المنبطحةِ للاحتلالِ، والمدافعةِ عنه في وجهِ أبناءِ بلدِك، بينما مَن يخالفُك ويفضحُ انتهاكاتِك وفسادِك حتى لو كان من نفسِ لونِك السياسي؛ فلا حقوقَ له ولا ضمانَ لأمنِه، ولا أمنِ أسرتِه؛ ليس وفقاً للقوانينِ الدوليةِ فقط؛ بل حتى وفقاً لأبسطِ قواعدِ المنطقِ والأخلاقِ المجتمعيةِ، ولا حتى وفقاً لمنطقِ “أبي جهل”؛ لو خرجَ من قبرِه لبَصقَ عليهم.

أمّا الثاني فهو كميةُ البهجةِ المنبعثةِ حقيقةً في داخلي؛ كلما رأيتُ تلك الكلمةَ (حُراس الجبل)، تُثبِّتُ في النفسِ جماليةَ القوةِ التي تأتي بعدَ عناءِ الانتصارِ رغمَ الألمِ، المحاولةُ للوصولِ رغمَ كُلِّ محاولاتِ سحبِك للقاعِ.

كيف يمكنُ لهذا الجيلِ أنْ يصنعَ ما يصنعُ من ثباتٍ وإصرارٍ على نفي كلِّ التُّهَمِ التي كُنا نَكيلُها له من أنه جيلٌ مستهترٌ، خياليّ، يعيشُ داخلَ الشاشاتِ، ولا يجيدُ سلْقَ بيضةٍ .. !

وغيرَ ذلك من الاتهاماتِ والمَسبّاتِ، جيلُ محاولاتِ التدجينِ والتخلّي عن كلِّ الثوابتِ والأصولِ؛ لكنه يُثبتُ لنا مرةً بعدَ مرةٍ أنه جيلٌ يُمكِنُه تحقيقَ ما يريدُ رُبما بسببِ ما نفّرْنا منه فيه، جيلُ الخيالِ والأكشِن والأنمي المُفرطِ في القوةِ والانتصاراتِ، التي تأتي للبطلِ الخارقِ فيها فجأةً؛ بعدما كان يتعرّضُ للتنمُّرِ من كلِّ أقرانِه.

رُبما لأجلِ ذلك؛ لم يتمكنْ من تصديقِ خزعبلاتِ الجيشِ الذي لا يُقهرُ، رُبما لأنه رأى خيالَه يتحققُ في قدرةِ غزةَ العاجزةِ الضعيفةِ المحاصَرةِ على صنعِ غذائِها وسلاحِها، وتحقيقِ إساءةِ الوجهِ للاحتلالِ في مدّةٍ وظروفٍ لا يمكنُ لعاقلٍ أو مَنطقي أنْ يصدِّقَها.

رُبما لا نشعرُ بذلكَ نحن أهلَ غزةِ؛ لِما نراه من وجعٍ فينا وفيمَن حولَنا؛ ممَّن نخسرُهم من الشهداءِ والمنازلِ والأعمالِ التي أنفقْنا عُمرًا في رعايتِها؛ وبذلْنا فيها كلَّ شيءٍ حتى تكونَ؛ ثُم تلاشتْ في غمضةِ عينٍ بفعلِ صاروخٍ لَعينٍ.

لكنْ يعرفُ ذلك حقاً مَن يخرجُ من غزةَ؛ ويرى تأثُّرَ الناسِ بكُلِّ ما تَحقّقَ أخيرًا، وكيف يندهشونَ عندما يسمعونَ أنّ غزةَ تكفي نفسَها تقريباً من الغذاءِ رغمَ الحصارِ، وكيف يجاهدُ الشبابُ فيها مرّةً بعدَ مرّةِ لِكَسبِ عيشِهم وإقامةِ حياتِهم.

وكيف يُمكنُ للأمهاتِ أنْ يُزَغرِدْنَ في جنازاتِ أبنائهِنَّ إغاظةً للعدوِّ، واستبشاراً بوَعدِ اللهِ من النعيمِ المُقيمِ، رغمَ ما في القلبِ من شوقٍ وحسرةٍ على الفِراقِ.

كلُّ ذلكَ وكأنَّ غزةَ بَعثتْ “العنقاءَ” الكامنةَ من رمادِها في نفوسِ هؤلاءِ الفِتيةِ الذين آمنوا بوعدِ اللهِ في نصرهِ عبادِه المؤمنينَ، وكأنهم يروا أبطالَهم في أفلامِ “الأنمي” يتحوّلونَ إلى حقائقَ؛ فينتصرونَ رغمَ الضعفِ والظلمِ ممّن حولَهم.

كيف كرِهوا دورَ الضحيةِ العاجزَ، فصعدوا الجبلَ، وأبَوا النزولَ إلا بانتفاضِ الماردِ فيهم، يُسيئونَ وجهَ المحتلِّ مرّةً بعدَ مرّةٍ، حتى وإنْ بدأوا من البدايةِ من جديدٍ؛ مُجسّمٌ فارغٌ، ثُم مليءٌ بالرملِ، ثُم بِضعُ فراقيعَ لا تُحدِثُ شيئاً، ثُم ستأتي الساعةُ التاسعةُ من كلِّ أرجاءِ فلسطينَ؛ لا من غزةَ وحدَها.. يقيناً ننتَظِرُه على أيدي هؤلاءِ الرُّماةِ الصغارِ.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى