
يعملونَ ليلَ نهارَ؛ تَحُفُّهم رعايةُ الرحمنِ؛ ولا يعرفونَ للراحةِ طعماً؛ يتسلّمونَ مهامَّهم الملقاةَ على عاتقِهم دونَ كلَلٍ أو ملَلٍ؛ ينطلقونَ إلى أعمالِهم بسرعةِ الريحِ؛ كلٌّ من مهنتِه “أطباءُ، ممرّضونَ، مسعِفون، رجالُ الدفاعِ المَدنيّ”؛ إنهم الجنودُ المجهولةُ التي تنقذُ أرواحاً من الموتِ؛ تنتشلُ أجسادَهم من تحتِ الركامِ؛ يحفظونَ أبناءَ وطنِهم من الحرائقِ؛ غيرَ خائفينَ من النيرانِ التي قد تطالُ أحدَهم.
ساعاتٌ طويلةٌ من العملِ ومحاولةِ إخمادِ النيرانِ التي قد تشبُّ في أيِّ مكانٍ، سواءٌ في منزلٍ أو محلٍّ أو مُنشأةٍ تجاريةٍ، أو إنقاذِ أشخاصٍ عالقينَ، فجُلُّ همِّهم هو إنقاذُ أرواحِ المواطنينَ؛ وضمانُ سلامتِهم وممتلكاتِهم.
قوةِ وصمودِ
في ظِلِّ الأوضاعِ الصعبةِ والخطيرةِ التي مرّتْ على غزةَ لمدّةِ (11) يوماً من العدوانِ؛ حاولَ الأطباءُ جاهدينَ إنقاذَ ما يُمكِنُ إنقاذُه؛ وبثَّ الحياةِ من جديدٍ في قلوبِ الأبرياءِ الذين تتزايدُ أعدادُهم كلَّ دقيقةٍ، فقد أخذوا على عاتقِهم تحمُّلَ المسؤوليةِ حتى في أحلَكِ الظروفِ، ولم يتذوقوا طعماً للراحةِ منذُ بدءِ الحربِ الهمجيةِ على القطاعِ المحاصَر.
الكوادرُ الطبيةُ من صغيرِها لكبيرِها عاشت ما بينَ تضميدِ جراحِ المصابينَ؛ ومداواتِهم والتهدئةِ من روعِهم؛ وما بينَ استقبالِ الشهداءِ الذين لا يتمكّنُ الأطباءُ من تحديدِ هويّاتِهم؛ جرّاءَ قسوةِ الضربةِ التي شوّهتْ معالمَ أجسادِهم فأحرقتْها دونَ شفقةٍ، في أقسَى المواقفِ التي لا يمكنُ للشخصِ العادي تقبُّلُها أو تحمُّلُ فظاعتِها.
من ضِمنِ بنكِ الأهدافِ الخاسرِ، الذي وضعتْهُ قواتُ الاحتلالِ الإسرائيلي للنَّيلِ من قوةِ وصمودِ الشعبِ الفلسطيني؛ وزارةُ الصحةِ حيثُ أعلنتْ عن استشهادِ الدكتور “أيمن أبو العوف” رئيسِ قسمِ الباطنةِ في مجمّعِ الشفاءِ الطبي وعائلتِه؛ بالإضافةِ لاستشهادِ الدكتور “معين العالول” أحدِ أخصائيِّي الأعصابِ في قطاعِ غزةَ وعائلتِه .
الاحتلالُ كان لا يَجدُ وسيلةً للانتقامِ بسببِ ضرباتِ المقاومةِ الموجعةِ ؛ سِوَى تكثيفِ الغاراتِ والانتقالِ من جريمةٍ إلى أخرى، من استهدافِ المدارسِ والأسواقِ والبيوتِ، إلى استهدافِ المستشفياتِ، مروراً بتدميرِ البِنَى التحتيةِ، واستهدافِ الأطباءِ وعائلاتِهم.
منعَ وصولَ الفِرقِ الطبيةِ
في حديثٍ مع “يوسف أبو الريش”، وكيلِ وزارةِ الصحةِ يقول :”إنّ الاحتلالَ استهدفَ المؤسساتِ الصحيةَ، “فدمّرَ مراكزَ الرعايةِ الأوليةِ، ودمّرَ الطرُقاتِ المؤديةَ إلى المستشفياتِ، واستهدفَ سياراتِ الإسعافِ، وأعاقَ وصولَها لإخلاءِ الجرحى.
وبيَّنَ أنّ الاحتلالَ استهدفَ الكوادرَ الصحيةَ؛ ومنعَ وصولَ الإمداداتِ والفِرقِ الطبيةِ؛ وحرمَ المرضى من الوصولِ إلى علاجاتِهم؛ وحرمَ السيداتِ الحواملَ، وأصحابَ الأمراضِ المزمنةِ، ومختلفَ المرضى من الوصولِ الآمِنِ لتلقّي الرعايةِ الصحيةِ؛ بالإضافة إلى استهدافِ الاحتلالِ المتكرّرِ للمراكزِ الصحيةِ؛ ومنها مراكزُ الرعايةِ الأوليةِ، وتدميرِ الطرُقاتِ المؤديةِ إلى المستشفياتِ؛ واستهدافِ سياراتِ الإسعافِ؛ وإعاقةِ وصولِها لإخلاءِ الجرحَى؛ واستهدافِ الكوادرِ الصحيةِ؛ ومنعِ وصولِ الإمداداتِ والفِرقِ الطبيةِ؛ وحرمانِ المرضى من الوصولِ إلى علاجاتِهم..
وبالانتقالِ إلى الجنودِ المجهولةِ الذين ينتقلونَ من مهمةِ إنقاذٍ إلى أخرى، ومن مهمةِ إطفاءٍ لمهمةٍ أخرى مماثِلةٍ دونَ دقائقَ من الراحةِ؛ وهم بذلك يكونونَ في صراعٍ دائمٍ مع الحرائقِ وألسِنةِ النيرانِ داخلَ المنازلِ.
وبيّنَ الدمارَ الكاملَ للبيوتِ والعماراتِ والأبراجِ التي لا ملامحَ لبدايةِ أو نهايةِ العمارةِ السكنيةِ المنهارةِ والمتناثرةِ حولَ ذاتِها لعشراتِ الأمتارِ؛ فالعمقُ الذي أدخلتْهُ أطنانُ الموادِ المتفجّرةِ للبنايةِ السكنيةِ في باطنِ الأرضِ غيرُ متوَقّعٍ، ولكنّ المؤكّدَ أنّ تحتَ تلكَ الأعماقِ المدمّرةِ عشراتِ المدنيينَ؛ كانوا نائمينَ مطمئنينَ في بيوتِهم.
تبدأُ مهمّةُ رجالِ الدفاعِ المدَني بإطفاءِ الحريقِ، ثُم محاولةِ معرفةِ عددٍ من كانوا داخلَ العمارةِ السكنيةِ، وهل هناك أحدٌ بقيَ على قيدِ الحياةِ، لأنّ صعوبةَ المهمّةِ تكمنُ في بقاءِ أصواتٍ تنادي بإنقاذِها من تحتِ أنقاضِ الركامِ؛ لتبدأَ الطواقمُ بنَبشِ حفرةٍ تتّسعُ لإخراجِ ناجينَ؛ ولو كانت نقطةَ ضوءٍ واحدةً.
نبشُ حفرةٍ تتّسِعُ لإخراجِ من بقيّ حياً ليست بالأمرِ الهيّنِ، فرُبما تلكَ الروحُ تجثمُ تحتَ سقفٍ إسمنتيّ؛ لا يَقدرُ على إزاحتِه فريقٌ من عشرينَ رجلاً على الأقلِّ، رُبما ينتهي النهارُ بأكملِه؛ ويخيمُ ظلامُ الليلِ قبلَ أنْ يتمكّنَ الدفاعُ المدَني من إكمالِ مهمّتِهم.
أصعب اللحظات
بعدَ ساعاتٍ طويلةٍ من العملِ المتواصلِ؛ استطاعَ فريقُ الدفاعِ المدَني إزاحةَ بعضِ الألواحِ الإسمنتيةِ؛ وإخراجُ ناجٍ يحملُ في يدهِ شارةَ النصرِ، ووجهاً ملطخاً بالدماءِ، جسدُه تآكلَ تحتَ أكوامِ الركامِ الثقيلةِ، وملابسه احترقتْ بنيرانِ صواريخِ الاحتلالِ؛ وتمَّ إخراجُه بحذَرٍ بالغٍ .
وفي زاويةٍ أخرى من نفسِ كومةِ الركامِ؛ يوجدُ ناجٍ آخَرُ كان يعودُ لطفلٍ يبلغُ سبعَ سنواتٍ؛ خرجَ بجسدٍ يشتكي الكسورَ والكدماتِ؛ ينظرُ حولَه ولا يعرفُ ماذا حصلَ.. أين والدتُه وإخوتُه.. الخوفُ يفتكُ بقلبِه الصغيرِ؛ عيناهُ تجولُ في المكانِ؛ لسانُ حالِه يتساءلُ ماذا حدَث.. .
في حديث للسعادة مع أمجد مهدي يعمل مع طاقم الدفاع المدني يقول :”عشنا أصعب اللحظات حين كُنا نسمعُ أنيناً يأتي من أسفلِ الركامِ؛ ونحاولُ تَتبُعَ الصوتِ؛ وحينَ ينقطعُ تنقطعُ قلوبُنا؛ فنعملُ على البحثِ بشكلٍ أسرعَ وبحذرٍ أكبرَ.
يضيفُ :” حينَ نصِلُ إلى المكانِ؛ ونرى حجمَ الدمارِ وتحتَه أرواحٌ لا نعرفُ من أين نبدأُ.. فتتعالى أصواتُنا: مَن هنا؟ هل يسمعُني أحدٌ؟ نقرّبُ آذانَنا من الركامِ؛ لعلّنا نسمعُ صوتاً همساً أنيناً يدلُّنا على المكانِ.
وبرغمِ كلِّ الخطرِ الذي كُنا نتعرّضُ له؛ إلّا أننا لم نتأخّرْ ولو لثوانٍ.. ونبقَى لساعاتٍ طويلةٍ ولأيامٍ حتى نتمكّنَ من الوصولِ إلى الأشخاصِ تحتَ الركامِ.
رجالُ المهمّاتِ الصعبةِ
في حديثٍ مع مديرِ عامِ الدفاعِ المدَني في قطاعِ غزة، اللواءِ “زهير شاهين”، أوضحَ أنّ العدوانَ الإسرائيلي، أحدثَ دماراً هائلاً في البِنيةِ التحتيةِ لقطاعِ غزة؛ حيثُ تركّزتْ هجماتُ الاحتلالِ على استهدافِ المواطنينَ الآمِنينَ والعُزّلِ من أطفالٍ ونساءٍ وشيوخٍ.
ويذكرُ اللواء “شاهين” الأعمالَ التي قامَ بها جهازُ الدفاعِ المدَني؛ حيثُ وصلتْ إلى أكثرَ من( 910) مهمة منذُ بدايةِ العدوانِ؛ ما بينَ( إنقاذٍ، وإطفاءٍ، وإسعافٍ، وتدخُلٍ سريعِ) منذُ بدءِ العدوانِ؛ رغمَ قلّةِ الإمكاناتِ وشُحِّ المواردِ الممنوعِ دخولُها منذُ أكثرَ من (15)عاماً لهذا الجهازِ الإنساني والخدماتي، فطواقمُ الدفاعِ المَدني سارعتْ بانتشالِ وإنقاذِ بعضِ المواطنينَ العالقينَ من تحتِ ركامِ المنازلِ المدمّرةِ بطرُقٍ وأدواتٍ بدائيةٍ وبسيطةٍ؛ كما أنقذتْ طواقمُ الدفاعِ المدَني (22) مواطنًا كانوا على قيدِ الحياةِ، فيما استخرجتْ جثامينَ (26) شهيدًا من تحتِ ركامِ المنازلِ التي استهدفتْها طائراتُ الاحتلالِ، في تلك المنطقةِ انتشلتْ جثامينَ عددٍ من المواطنينَ؛ إثرَ استهدافاتٍ إسرائيليةٍ مختلفةٍ، ونفّذتْ (210) مهماتِ إسعافٍ لمواطنينَ أُصيبوا جراءَ العدوانِ، ونقلتْهم للمستشفياتِ، كما نفّذتْ طواقمُ الإنقاذِ (175) مهمةً نتيجةَ حوادثِ استهدافِ منازلَ للمواطنينَ، واستهدافِ أراضٍ زراعيةٍ، واستهدافِ منشآتٍ صناعيةٍ، وبنوكٍ، ومواقعَ للمقاومةِ، كما نفّذتْ طواقمُ الإطفاءِ (525) مهمةَ إخمادِ حرائقَ معظمُها بسببِ العدوانِ.