لوحةُ الملَثَّمِ.. موناليزا المقاومةِ في فلسطين
بقلم :الصحفية أية ابو طقية
نجَت غزة.. وكلُّ الذي عِشناهُ في طريقِ النجاةِ كان عجَباً، إذْ كيف تجتمعُ عليكَ تحتَ النارِ في آنٍ واحدٍ مشاعرُ القهرِ مع الفخرِ! الخوفِ والأمنِ! الموتِ مع الطمأنينةِ أيضا.!لم يَحدُثْ بعدُ في بلادِنا أنْ يُدخَلَ الشهيدُ قبرَه؛ وتَخرُجَ من قبورِ الأرضِ -عِوضاً عنه- صواريخُ تَثأرُ لمَقتلِه!
لم يعتدِ الناسُ على ناطقٍ باسمِهم، كلُّ ناطقٍ معروفُ الاسمِ مكشوفُ الوجهِ أيْ نَعم؛ لكنه لا ينتمي لأشكالِنا، يسبّحُ بحمدِ الحاكمِ ويقدّسُ له، يصرّحُ على القنواتِ ليُلجِمَ الناسَ عن حقوقِهم ويُلهيهِم عن ذِكرِ الوطنِ، والحقيقةُ تؤكّدُ أننا لم نعرفْ إلا ناطقَنا يتحدّثُ بلسانِنا.
أطلَّ الملَثّمُ تحتَ العدوانِ، يُسكّنُ الجرحَ الفلسطيني، ويُنعشَ الذاكرةَ الوطنيةَ التي قسّمتْها النكباتُ، وعزّزَها انكفاءُ المنقسِمينَ على همومِهم، خرجَ ليُرغِمَنا على الوطنِ الذي صغَّرْناهُ في عيونِنا؛ لأنهم سرقوا أكثرَهُ، وحّدَنا بعدماً أمَتْنا فلسطينَ التاريخيةَ في عقولِنا، تلا علينا آياتِ التحريرِ بمنطقِ “ونراهُ قريباً” ..
-شخَصَتْ أبصارُ الفلسطينيينَ تُجاهَ مشاهدِ المُلثّمِ؛ كأنها أحدُ المقاطعِ في فيلمٍ مفضّلٍ، تدَاولوا كلماتِه على أجهزتِهم؛ فوَجدوا فيها اختلافاً كثيراً، فنظّموا منها “دحِيّةً” للرقصِ في السهراتِ الشبابيةِ، اقتبسوا منها أهازيجَ الأعراسِ، وضعوها نغماتٍ للرّنينَ على هواتفِهم وفي سياراتِهم، ركّبوا عليها المقاطعَ الثائرةَ الساخرةَ، أعادوا تدويرَها في (تيك توك، وإنستجرام) حتى لم يَبقَ إلى اليومِ من لا يَعرفُ “أبو عبيدة.”
ثُم من طرائفِ القَدرِ أنك إذا هدَّدْتَ عندَنا أو توَعَّدْتَ؛ يُقالُ خلفكَ “ولا أبو عبيدة”!
وإذا تلثَّمتَ وتخفّيتَ؛ يتندّرونَ عليكَ “ولا أبو عبيدة”!
أمّا إنْ “وَشوَشتَ” صديقَك بتحليلِك الخاصِّ لِما شاهدْتَه البارحةَ في “ما خفيَ أعظمُ”؛ فسيُقاطِعُك أيضاً “بِنْفَع يحطّوك بدَل أبو عبيدة”.
أتعلَمُ أنك إنْ واعدْتَه في تمامِ الساعةِ التاسعةِ مساءً بالضبطِ؛ فقد يُطمئِنُكَ بقولِه: “ولا يهِمَّك، بتوقيتِ أبو عبيدة” .
-ظاهرةُ الـ “أبو عبيدة” هذه لم تُحدِثْها فدائيةُ يومٍ، ولا صنائعُ ليلةٍ؛ فقد ارتبطَ ظهورُ الرجلِ في أذهانِ الفلسطينيينَ على الشاشةِ ببطولةٍ تَسبِقُها؛ وذلك في سنواتٍ عدِمْنا فيها حُكمَ البطولاتِ، واعتدْنا أخبارَ التفاوضِ والتسليمِ!
-يَظهرُ المُلثّمُ بكوفيةٍ حمراءَ؛ لا تُظهرُ إلا عينينِ ثابتَتينِ، وصوتٍ هادىءٍ محفوظٍ كاللازمةِ في أُذُنِ الطفلِ وذاكرةِ الشيخ.
-يَظهرُ حين تُقصَفُ “تلَّ أبيبَ”، وحينَ تتهدّدُ يافا المحتلةُ، وحيفا، ومدنٌ أخرى حفِظناها في دروسِ الجغرافيا ونسيناها بالإجبار .
– وبألفِ يومٍ ممّا يَعُدّونَ، يظهرُ أيضاً في إطلالةٍ نادرةٍ فريدةٍ زلزلتْ القطاعَ المُدَمَّرَ خلالَ عدوانِ (2014) لِيُحيلَه -برَقمٍ موثوقٍ تلاهُ على مسامِعنا- يوماً مشهوداً .
بينما أكتبُ الآنَ أُخلّدُ في ذاكرتي لحظةً لخْبَطتْ الأوساطَ؛ جعلتْنا نَخرجُ كالمجانينِ، نبكي بكاءَ المُطمئنّينَ باللهِ، أَذكرُ جيداً كيف قرأَ الرقمَ (6092065) ؛ ثُم ختمَ خطابَه بوعدِ اللهِ ” وما النصرُ إلّا من عندِ اللهِ” ثثم نقطة انتهى
بعدَ تَجدُّدِ العدوانِ وانتهائهِ قبلَ أيامٍ من الآنَ؛ تَندّرَ الفلسطينيونَ على بعضِهم بقولِهم “يعني أبو عبيدة حَيبطّل يِطلعْلهم”، أمّا آخَرونَ فاقترحوا باستهزاءٍ “بِدنا يِطلَعْ يِحكيلنا مُوجَز الصحةِ في كورونا” ..
ما يحفظُ وجهَ المُلثَّمِ أنه لا يَظهرُ لخلافٍ أو في مُهاترةٍ، يستثيرُ انتماءَ الداخلِ المحتلِّ، ويناصرُ هبّةَ الضّفةِ المحتلةِ، يدعمُ المقاوِمَ أياً ما حملَ، ومَهما كانت وسيلتُه، يستثيرُ القاعدينَ، يُكرّرُ بعدَ كلِّ رشقةٍ “ردّاً على مَجازرِ الاحتلالِ بحقِّ المَدنيينَ”، وفي هذا كلِّه مَتينٌ لا يُخطِئُ في ضبطِ الكلماتِ، متمكّنٌ في أدائها على نحوِها، وبالمُجمَلِ فقد كانت لوحةُ المُلَثّمِ هويةً بصريةً مُعبّرةً شديدةَ الوضوحِ رغمَ خفائها ..”
أبو عبيدة ليس رجلاً من القسّام فَحَسْبُ ..
إنما هو شابٌ عنيدٌ يحفرُ رمالَ النّفقِ فيُطيلُ الحفرَ أو يَختَنقُ.
كوماندو يغوصُ في البحرِ؛ قد يغرقُ، وكثيراً سيَصِلُ.
مهندسٌ عبقريّ يَصنعُ الصاروخَ.. وشابٌّ مندَفعٌ يُطلِقُه.
وآخَرُ يؤمّنُ مالَه وزوجَه في بلادِه، ويتصدّقُ بعِلمِه على أشدِّ الرجالِ حاجةً إليه ..
طيّارٌ يدقّقُ نِظامَها التشغيليَّ قبلَ أنْ تغزو، يَصنعُها فإمّا تستطلعُ وإمّا تنتحر..
بروفيسور يَتركُ ناساً ويؤثِرُ القسّام !
أبو عبيدة رجلٌ من القسّام.. وكلُّ القسامِ أبو عبيدة ..