ما خفي أعظم

ما خفي أعظم
صباح العمل مزدحم، والمنتظرون على باب المصعد شكلوا طابوراً، فعدد الموظفين في برج للمنشآت بارتفاع خمسة عشر طابقاً لا يمكن تداركه بمصعدين، فما بالك بواحد! لكن الكهرباء لها كلمتها المُلزِمة!
استدعى هذا الازدحام تدخل حارس البرج الذي تكرم بالتحكم في المصعد ليتوقف فقط في الطابق المقصود بعد أن يملأه بموظفي كل طابق على حدة، لكنه تكرم أيضاً بالتحدث إلى الموظفين الذين يألفهم من باب التسلية، لكن ما قاله يمكن أن تنطبق عليه أية تسمية إلا التسلية!
كان يتحدث إلى زميلي حول أخبار البلد الصباحية، وصحبها بسؤال عن رواتب الشهداء والجرحى، وبعد أن أجابه الزميل، تساءل عن سبب تقاضيه من مخصصات الشهداء والأسرى، وكانت إجابته الرتيبة صدمة صباحية استمر تأثيرها كل صباح عند رؤيته على باب المصعد!
قال بكل بساطة إن ابنيه استشهدا أثناء الحرب، كان أحد أيام رمضان، وكانا طفلين صائمين في عمر العاشرة والحادية عشرة، عائدين من المسجد الذي يحفظان فيه القرآن، وكان شيخهما في التحفيظ قد نصحهما بتناول التمر واللبن لأنه يقوي البدن ويعين على الصيام، لكن صاروخ طائرة صهيونية استهدف البقالة التي كانا متوجهين إليها لشراء التمر واللبن، فاستشهدا على الفور مع تسعة آخرين..
أكمل الحارس سرد قصته كأنه يقرأ خبراً من جريدة، وقد بدت علامة الصدمة على وجه الزميل الذي يبدو أنه ندم على سؤاله، وبادره بأدعية وأمنيات، الحارس استأنف: “كنت في عملي هنا، واتصلوا بي لأن أحدهما طلب رؤيتي قبل أن يلفظ أنفاسه، لكنني لم أدركهما، وصلت وكانا في أكفانهما، منتظرين الدفن، لكنني ارتحت عندما أخبروني أنهما لفظا الشهادة أكثر من مرة”
عندما وصل المصعد وجاء دورنا كان صعوده صامتاً رهيباً مؤلماً، حمدت الله أنه وصل في الوقت المناسب، لأنه لو استمر في الكلام لما تمالكت دموعي!
وصلت مكتبي وأنا في حالة صدمة، ليس لفظاعة الحادثة، لأنني قابلت بعد الحرب أصحاب حوادث أكثر فظاعة وأشد ألماً، بل لأنه لا نزال بعد مرور كل هذه السنين نشعر بلهيب الحرب وأساها، تنتهي وتعود الحياة لمجاها، لكنها تنجلي كل مرة وقد قضمت معها جزءاً من القلب!
نعمة البكور
مع تباشير الصباح الأولى، تراهم يتحضرون في أماكن عملهم الذي قد يعتقدون أنه ممل أو متعب، لكن الحقيقة أنهم يبدون كلوحة بديعة متناغمة العناصر، كل منهم يرسم جزءاً فريداً منها، أحدهم يكنس أرضية محله، وآخر يلمع زجاج الواجهة، وثالث يرتب البضائع في مكانها بالخارج، ورابع يعد القهوة، وبينهم تتجول أشعة الشمس الأولى كأنها تلقي التحية عليهم، وسط أصواتهم يتبادلون عبارات الصباح ودعوات الرزق والتوفيق، وأصوات العصافير التي تؤمن على دعائهم..
أتأمل وجوههم المتباينة الملامح والمشاعر، بين عيون أرهقها السهر، وأخرى هادئة وادعة تعمل بهدوء وثقة، جبهات خطت السنوات فيها خبرة لا تمنحها المدارس، وأخرى طرية لم تتعدَ عمر المدرسة..
كلما ظننت أن المشهد يبدو مألوفاً، تأكد خطأ ظني، فأشعر أنهم يمسكون الصباح ويسحبونه من تلابيبه، لينير يومنا.
نسائم الحب
طوال شهر كامل كان صغيري محمد (7 أعوام) يقف على نافذة المنزل المطلة على الشارع، متأملاً الأنوار المتلألئة على جانبي الطريق أمام محلين لبيع الإضاءات والفوانيس والزينة، ويعلن بثقة وفرح عدد الأيام المتبقية لوصول شهر رمضان، ويزداد حماسة وفرحاً كلما نقص الرقم..
لا يعي محمد كثيراً من روح رمضان، ولم يصم يوماً كاملاً من قبل، وليس من الأطفال الذين ينجرفون مع فرح الطفولة البرئ للأحداث السارة، لكن لهفته وانتظاره لرمضان أسعدتني وأبهجت قلبي، وتمنيت لو أن هذه الروح ترافقه طوال سنيه، وسررت لأن محاولاتي تحبيب هذا الشهر لأطفالي كانت واضحة جداً إلى هذه الحدّ، وانعكست عليّ فازددت فرحاً وتحمساً، وقررت تعزيز تلك الأجواء بإرسالهم كل بضعة أيام إلى المحلات المجاورة لينتقوا بأنفسهم زينة وأضواء الشهر الكريم، وتأملت حالنا نحن الكبار، لو كانت لنا ذات اللهفة والانتظار لرمضان المبارك، لكانت قلوبنا غير هذه القلوب.