ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ

أمرٌ في غايةِ الأهميةِ؛ وهو من أقصرِ الطرُقِ التي توَحّدُ المجتمعَ؛ وتجعلُه متماسكاً متعاوناً ضدَّ أيٍّ من الخُططِ الهدّامةِ التي تهدفُ إلى نشرِ الفتنةِ بينَ أبناءِ المجتمعِ الواحدِ؛ ألا إنها صِلةُ الأرحامِ؛ حيثُ أنّ صلةَ الأرحامِ تعملُ على تأسيسِ مجتمعٍ قوي متماسِكٍ؛ يفخرُ بعاداتِه وتقاليدِه وقِيَمِه وأخلاقِه؛ ما يساعدُ على نشرِ الطمأنينةِ؛ وترسيخِ أواصرِ المحبةِ والوئامِ في المجتمعِ؛ إلي جانبِ امتلاكِه قوةً كبيرةً تمكِّنُه من تخَطّي أيّاً من معيقاتِ التقدمِ والنجاحِ؛ ومواجهةِ الفِتنِ والشائعاتِ التي تهدفُ إلى زعزعةِ الاستقرارِ العام، وخلقِ حالةٍ من الفوضى والتفكُّكِ؛ والقضاءِ على العلاقاتِ الاجتماعيةِ البنّاءةِ داخلَ المجتمعِ الواحدِ .
وأعتقدُ أنّ الحفاظَ على صلةِ الأرحامِ ليس أمراً صعباً على الإطلاقِ، وأظنُّ أنّ الإحسانَ إليهِم، والتقرّبَ منهم، والتوَدُّدَ إليهم، وعدمَ قطْعِ زياراتِهم، ومواساتِهم في السرّاءِ والضراءِ، والوقوفَ بجانبِهم، والذَّودَ عنهم، ونصرتَهم عندَ الحاجةِ؛ خاصةً الأقاربَ من الدرجةِ الأولى؛ لَهو صلةُ الرحمِ بحذافيرِه، حيثُ قال رسولُ اللهِ صل الله عليه وسلم: (الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ) رواه مسلم. وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ؛ فإنما يدلُّ على عظيمِ الأجرِ والثوابِ الذي أعدّه اللهُ تعالى لمَن يَصِلُ رحِمَه. ولا يقتصرُ أجرُ صلةِ الرحمِ على الأجرِ والثوابِ في الآخِرةِ؛ بل إنها سببٌ في تيسيرِ الأمورِ في الحياةِ الدنيا؛ بالإضافةِ إلى أنها تزيدُ في بَركةِ الرزقِ، وتزيدُ في بَركةِ العُمرِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) رواه الشيخان. وهي سببٌ لنشرِ السعادةِ والألفةِ والمحبةِ بين الناسِ، فهي تؤسِّسُ للحُبِّ في القلوبِ، وتزيدُ من تواصلِ الناسِ فيما بينَهم، فتصبحُ العلاقاتُ أكثرَ موَدّةً وألفةً، وتعزّزُ من الترابطِ الأُسري، وبعَكسِ ما هو متعارَفٌ عليه عندَ الناسِ، فإنّ صِلةَ الرّحمِ ليست واجبةً على الرجلِ وحدَه؛ بل هي واجبةٌ على المرأةِ أيضاً، ويجبُ أنْ تكونَ هذه الصلةُ متبادَلةً، وأنْ يبادِرَ كلُّ شخصٍ بزيارةِ الآخَرِ والاطمئنانِ عليه؛ خصوصاً زيارةَ الأصولِ من الأرحامِ: (كالأخوةِ، والأخواتِ، والأعمامِ، والعمّاتِ، والأخوالِ، والخالاتِ)، عِلماً أنّ أقربَ الأرحامِ هما الأمُّ والأبُ، الذين لهم حقُّ الصلةِ الأكبرُ والأعظمُ أجراً
قالَ رسولُ اللهِ صل الله عليه وسلم: (إنَّ الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فقالَ اللَّهُ: مَن وصَلَكِ وصَلْتُهُ، ومَن قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ) صحيح البخاري. فالقطيعةُ للأرحامِ تسبّبُ القطيعةَ مع اللهِ تعالى، كما أنّ اللهَ صوّرَ تقطيعَ الأرحامِ بأنه إفسادٌ في الأرضِ؛ لأنّ فيه كسراً للخواطرِ والقلوبِ، بعكسِ صلةِ الرّحمِ التي تُدخِلُ الفرحَ والسرورَ، وتُعطي الشعورَ بالأمانِ والاطمئنانِ؛ ولهذا فإنّ الإيمانَ لا يكتملُ إلّا بصِلةِ الرّحمِ، ولا يكونُ المؤمنُ مؤدّياً لواجباتِه الدينيةِ بشكلٍ كاملٍ؛ إلّا إذا كان واصلاً لرَحمِه، فالصلةُ ليست خِياراً ولا مقابلةً فِعلاً بفِعلٍ؛ بل هي واجبٌ دينيّ واجتماعيّ وأخلاقي، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصلُ بالمُكافِئِ ولكنَّ الواصِلَ الذي إذا انقطعتْ رحِمُه وصلَها) صحيح البخاري. فلا يجوزُ أنْ نقطعَ أرحامَنا؛ بل يجبُ أنْ نكونَ مبادرينَ دائماً حتى لو قاطعونا ولم يصلونا، فمَن يبادرْ بها أولاً؛ فلَه الأجرُ والثوابُ العظيمُ. وأخيراً لا تقتصرُ صِلةُ الأرحامِ على تبادُلِ الزياراتِ فقط؛ إنما لها العديدُ من الأشكالِ والطرُقِ؛ فالاتصالُ الهاتفي يُعدُّ صلةً للرّحمِ، وتَفقدُهم من وقتٍ لآخَرَ، والسؤالُ عن أحوالِهم، وتعَهدُهم وإعطاؤهم من الصدقاتِ، واحترامُ كبيرِهم، والعطفُ على صغيرِهم؛ يُعَدُّ صِلةً أيضاً؛ ولهذا لا ينبغي لأيِّ شخصٍ أنْ يتَعذّرَ بالظروفِ، أو بضيقِ الحالِ، أو بضيقِ الوقتِ، أو الانشغالِ، فمَن أرادَ أنْ يصِلَ رحِمَه؛ فلن يُعجِزَه إيجادُ طريقةٍ لذلكَ .