أيُّها الهَلِعونَ أَعيدوا لنا رمضانَ الذي نريدُه

“لقد غليتُ الماءَ ووضعتُه داخلَ المُجمّدِ تحضيراً لرمضان”، لقد كانت هذه العبارةُ الساخرةُ الواقعيةُ تمثّلُ تعليقَ إحدى السيداتِ على منشورٍ داخلَ إحدى المجموعاتِ النسائيةِ؛ حولَ الاستعداداتِ لشهرِ رمضانَ المباركِ، وكالعادةِ، رافقَ المنشورَ ما لا يَقِلُّ عن عشرينَ صورةً تحتوي على طرُقِ تخزينِ الأطعمةِ المختلفةِ؛ استعداداً من صاحبتِه لاستقبالِ الشهرِ الكريمِ .
الغريبُ أنّ السيدةَ لم تتركْ شيئاً يُخزّنُ أو لا يُخزّنُ إلا وفعلتْهُ؛ قد عصرتْ الليمونَ، وجمّدتْ الموزَ والفراولةَ والبرتقالَ، جمّدت الزهرةَ، و البروكلي، و ورقَ العنبِ، وحبّاتِ الكوسا، حضّرتْ السمبوسك والكبّةَ و رولاتِ المسخَّن ، تبّلتْ الشنيتسل وكُراتِ البطاطا بالجبنِ وبالبقسماط، فرَمتْ الملوخيةَ، والفاصوليا، والقولَ الأخضر ، قمّعتْ البامية، وفرَطتْ حبّاتِ البازيلاء، أعدّتْ كلَّ أصنافِ المُعجّناتِ المختلفة، جمّدتْ كُلَّ ما يخطرُ على بالِ القارئِ من لحومٍ ، شاوِرما ،تايلندي، كفتةٍ، كبابٍ؛ ولم تقفْ عندَ ذلك؛ بل فرَمتْ البصلَ والبقدونسَ والنعناعَ والجرادةَ؛ كلٌّ بحُجةِ توفيرِ الوقتِ لعيشَ طقوسَ رمضان!
الغريبُ في الأمرِ أنّ كلَّ ذلك الذي فعلتْهُ كان بكمياتٍ كبيرةٍ تحتاجُ لأكثرَ من برّاد أو (فريزر)، والأدهَى أنه يحتاجُ إلى شهورٍ طويلةٍ لاستهلاكِه؛ إذ أخذنا بعَينِ الاعتبارِ مدّةَ الثلاثينَ يوماً وتفاصيلِها، التي تنصُّ على وجبتينِ أساسيتينِ: الأولى هي الإفطارُ؛ والثانيةُ السحورُ؛ والذي عادةً يقدّمُ من حواضرِ البيتِ، هذا يعني أنّ كلَّ ما أعدّتْه سيُقدّمُ على ثلاثينَ وجبةً فقط.
لا أحدَ ينكِرُ على النساءِ أنْ يكُنَّ نشيطاتٍ مدبّراتٍ قادراتٍ على إدارةِ مواردِ حياتِهنّ بكُلِّ راحةٍ واهتمامٍ، لكنّ ما يَحدثُ قبيلَ رمضانَ عبرَ صفحاتِ “السوشيال ميديا” من استعراضٍ لخبراتِ النساءِ في التحضيرِ لشهرِ رمضانَ؛ لا يُمكِنُ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ إلّا أنْ نسمِّيه (هَلع رمضان)!
متى سنُدركُ جميعاً أنّ رمضانَ الذي فُرض علينا صيامُه وقيامُه؛ يختلفُ عن رمضانَ الذي نعيشُه، فإذا كانت الحِكمةُ من رمضانَ أنْ يشعرَ المسلمُ من خلالِ الصيامِ (والإحساسِ بالجوعِ والعطشِ) بألَمِ الفقراءِ والمساكينِ ممّن يعيشونَ هذا الشعورَ طوالَ حياتِهم، ولن يدرّبَ المؤمنَ ويُعلّمَه الامتناعَ عن المعصيةِ واجتنابَها والبُعدَ عنها، ويعطي المؤمنَ القدرةَ على اتخاذِ القرارِ في القيامِ بالعباداتِ ومواصلتِها فيما بعدَ رمضان ، فأينَ نحن من هذه الحِكمةِ؛ ونحن نَسطَفُّ على أبوابِ محلاتِ الزينةِ؛ لشراءِ زينةِ رمضانَ التي لا يقلُّ سعرُها في البيتِ الواحدِ عن (٥٠) شيكلاً ! أين الحِكمةُ ونحن نقفُ مساءً ليلةَ الوقفةِ على أبوابِ المولاتِ التجاريةِ “بهَلعٍ” لشراءِ ما يلزمُ وما لا يلزمُ من أطعمةٍ، وحبوبٍ، وتمورٍ، وفواكهَ، وأجبانٍ، وعصائرَ، ولحومٍ! أين شعورُنا بالفقراءِ من ذلك.
أيُّ حِكمةٍ نصومُ لأجلِها! وما أوجُهُ الشّبَهِ بينَ رمضانَ الذي فُرضَ علينا صيامُه؛ وبينَ رمضانَ الذي نحياهُ في أيامِنا هذه! إنه للأسفِ ودونَ أدنَى مُبالغةٍ؛ لا يُشبِهانِ بعضَهما البعضِ؛ إلّا مَن رَحِمَ ربي ممّن يتّقونَ اللهَ حقَّ تُقاتِه ..
أَذكرُ رمضانَ قبلَ عشرينَ عاماً تقريباً؛ وكنتُ حينَها صبيّةً بالغةً وراشدةً؛ أذكرُ كلَّ تفاصيلِه الجميلةِ، لم تكنْ أمي تشتري فانوساً يضيءُ بابَ بيتِنا، ولم تعلّقْ الزينةَ يوماً على ستائرِ البيتِ، كان جُلُّ استعدادِها تنظيفَ البيتِ جيداً، وتقديمَ مكانِ الطعامِ بحيثُ يتّسعُ لنا ولأيِّ ضيفٍ مُرتقَبٍ، كانت تغسلُ سجادَ الصلاةِ؛ و تحضّرُ لنا ملابسَ صلاةٍ جديدةً.
كان أبى يشتري أطعمةً كالعادةِ؛ لم تكنْ تختلفُ عن أيامِنا العاديةِ أبداً، كان يوقِظُنا على صوتِ المسحراتي الذي كان يأتي باكراً متطوّعاً وهو عادةً من مستوري أهلِ الحيِّ؛ فنقدّمُ له ما تيسّرَ من سحورٍ؛ ونسمعُ منه دعواتٍ جميلةً لا تزيدُنا إلا بهجةً ومحبةً لهذا الشهرِ الفضيلِ، كان الأطفالُ يَخرجونَ بعدَ الإفطارِ إلى أزِقّةِ الحيِّ؛ يحملونَ فوانيسَ من صُنعِ أيديهِم، كان صنفُ طبيخِنا مَهما كان نوعُه يلُفُّ أقربَ أربعةِ بيوتٍ إلينا، بينما كانت مائدتُنا تزدحمُ بأطباقِ الجيرانِ والمُحبّينَ.
ولقد كان لرمضانَ بهجتُه الجميلةُ، وأوقاتُه السعيدةُ، وعباداتُه وروحانيتُه وضيوفُه وطقوسُه، لم ترتبطْ بَهجتُه بالأواني الجديدةِ؛ ولا الزينةِ والإضاءاتِ ولا الشراشفِ المُزركَشةِ، لم تَنقُصْ سعادتُنا لأنّ سفرتَنا لم تكنْ تتَزيّنُ بكُلِّ أصنافِ الأطعمةِ في العالمِ، لم يؤثّرْ غيابُ الأجبانِ الهولنديةِ والتركيةِ والدنماركيةِ على روحانيةِ الشهرِ، لم تُغادرْ بهجتُنا؛ لأنّ أمي لم تَشترِ أطقُمَ فوانيسَ متعدّدةً ومُكلِفةً، لم نحزنْ لأنّ أبي لم يكنْ يتسوّقُ كما تتسوّقونَ اليومَ بهلَعٍ، فقد كانت سفرتُنا المتواضعةُ ونحن نَلتَمُّ حولَها مُستغفرينَ مسبّحينَ أجملَ من كُل سُفَرِ اليومِ.
لم تخزنْ أمي وأيٌّ من نساءِ حيِّنا.. لأنها لم تُصَوِّرْ سفرتَها وتنشرْها عبرَ “فيسبوك أو انستغرام”، إنّ ما كان يُحزِنُ أمي أكثرَ أنْ يشتَمَّ شخصٌ عابرٌ ريحةَ طعامِها ولا يتذوّقُه؛ لذا كانت حريصةً أنْ ترسلَ لمَن تتوقّعُ أنهم اشتمّوهُ؛ حتى وإنْ كانت الكميةُ التي تطبخُها لا تكفينا، لقد كانت تعتمدُ على بَركةِ وخيرِ رمضانَ .
أرجوكم أيها (الهَلِعونَ) أينما كُنتم؛ أَعيدوا لرمضانَ فِطرتَه الأولَى، اهتموا بروحانيتِه الدينيةِ، ابحثوا للجيلِ القادمِ عن مفاهيمَ راقيةٍ لنُورّثَهم إياها، ازرعوا في أطفالِكم قيماً وأخلاقاً حقيقةً تعيشُ معهم؛ فتُعزِّز إيمانَهم، وتزيدُ ارتباطَهم بالدِّينِ والوطنِ والعائلةِ، تعالوا معنا ننبذُ كلَّ البِدَعِ التي باتت تشكّلُ ثقافتَنا ومِحورَ اهتمامِنا، تعالوا معنا نعودُ إلى دينِنا وسيرةِ نبيِّنا وخصوصيةِ عباداتِنا.