Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

الصبرُ زينٌ

الكاتبة : دعاء عمار
الكاتبة : دعاء عمار

 

كم مرّةً صارَعْنا فيها أفكارَنا! واحْتَرْنا بينَ قراراتِ العقلِ والقلبِ! كم مرةً ساءتْ فيها حالتُنا النفسيةُ حتى بِتنا لا ندري ما نفعلُ! أو فعلْنا ما لا نرضَى بهِ بعدَ حينٍ! وكم من مرّةٍ نظَّرَ علينا غيرُنا في محاضراتٍ كثيرةٍ عن تحكيمِ العقلِ، وترْكِ القلبِ وما يهوَى؛ كي لا نشقَى فيما بعدُ!

والآن دلَّنا “منصور” على الحقيقةِ الكامنةِ في روحِ الإنسانِ وقلبِه؛ “منصور” الذي خرجَ من السجنِ وقد نسيَ كلَّ شيءٍ حتى أمَّه! لكنه بقيَ على عهدِ قلبِه وروحِه طيَّبَ السريرةِ سَويَّ المَنطِقِ وإنْ كان بلا عقلٍ! فماذا يفعلُ العقلُ إنْ كان سيَنسَى آلامَ الأسرى وأهليهِم من خلفِهم، إنْ كان سيتآمَرُ عليهِم؛ ويقطعُ رواتبَهم؛ ويُشتِّتُ شملَ عائلاتِهم؛ عندما تَفقدُ مصدرَ دخلِها الوحيدِ بعدَ غيابِ عائلِهم خلفَ القضبانِ.

ماذا سيفعلُ العقلُ إنْ قرّرَ أنّ المحتلَّ هو الحليفُ والرديفُ للوجودِ! وصمّمَ على سحقِ كلِّ مُخالِفٍ لِهَواهُ السياسي؛ حتى وإنْ كان ابنَ بلدِه ولونِه وجِلدتِه! ما فائدةُ العقلِ حينَها؟ القلبُ وَحدَه الأصدقُ يا “منصور”، القلبُ الذي تَنفّسَ حُبَّ فلسطينَ؛ حتى سَرَتْ في شرايينِه لا ينساها؛ وإنْ نسيَ أُمَّه، دقاتُ قلبِكَ التي عدَدْتَها واحدةً بعدَ أخرى؛ مع الثواني التي قضيتَها في سجنِكَ وعَزلِكَ؛ بينَما نسيناكَ وإخوانَكَ الأَسرى في حَيواتِنا المختلفةِ، تلكَ الدّقاتُ كانت تنبضُ لفلسطينَ التي زادتْكَ عِزّاً على عزٍّ بعدَ خروجِكَ؛ فأجبَرتْنا على ذِكرِكَ ولَو غابَ عقلُكَ.

“الصبرُ زينٌ” يا منصورُ.. وقد صبرتَ وظفرتَ.. وكيف لا وأنت منصورٌ! ماذا كنتُ سأفعلُ دونَ رؤيتِكَ وكلماتِكَ التي ملأتْ الدنيا ذِكراً؛ كما ملأَها غيابُكَ نسياناً وصمتاً، وقد كنتُ غارقةً في حالي ومآلي؛ وأنا في عزلتي بينَ الناسِ والحدائقِ والشمسِ والهواءِ والمطرِ؛ وكلِّ ما أنا فيه من نعيمٍ، لم يُعوِّضْني عن الوحدةِ القاتلةِ في داخلي بعيداً عَمَّن أُحبُّ.

كيف كانت عزلتَكَ؟ إلى ماذا كنتَ تستمعُ؟ وبمَ كنتَ تتسلّى وتؤنِسُ وحدَتَكَ، وكيف تسلّلَ عقلُكَ خارجَ الزنزانةِ هارباً! هل فكّرَ في أصواتِ العصافيرِ! أَم تَخيّلَ ضوءَ الشمسِ دونَ شبكِ الزنازين! أَم رائحةَ البحرِ خلفَ الجدرانِ الرماديةِ، أَم ألوانَ الزهورِ، أَم رُبما فكّرَ في حِضنِ أمِّكَ التي لم تكُنْ تَذكرُها، هل قبعَ هناك ثُم آثَرَ ألّا يعودَ!

لكنكَ محتفظٌ بقلبِكَ لحُسنِ الحظِّ، فلا تَبتئِسْ، نحن لا نَعرفُ الحقيقةَ بعقولِنا، بل بقلوبِنا؛ ذلكَ القلبُ الذي دلَّكَ لِتَثأر لمَقتلِ الياسين، لتمتلئَ عِزّاً وفخراً، لِتَخرُجَ عزيزاً؛ وتفضحَ الأذِلّاءَ ليزدادوا ذُلّاً وبؤساً، لتفضحَ رَخاوتَنا في الحديثِ عنكم، وتُلهينا في الحياةِ دونَكم، لتُعيدَ قضيَّتَكم مِحورَ القضايا ومركزَ البوصلةِ، لتُرينا الحقَّ من جديدٍ؛ مَهما كثُرتْ المشوشاتُ أمامَ عقولِنا.

لتعيدُ لنا قلوبَنا حيّةً يا منصورُ، فكَم مُتْنا ونحن أحياءُ! تَلفحُ وجوهَنا الشمسُ، نعتادُ على نوافذِنا المفتوحةِ دونَ قضبانٍ، نتأذّى من حرارتِها الزائدةِ، نلبسُ نظّاراتِنا الشمسيةَ، نُخفيها عنّا قليلاً، نحاولُ الهربَ من كلِّ ما يعتركُ داخلَنا من أفكارٍ، نَنسَى أننا في نعيمٍ، فنفقدُ قلوبَنا وإنْ بَقيَتْ عقولُنا منشغلةً بالمعاركِ التي نخسرُها مراراً دونَ قلبٍ حيٍّ.

لا تَخفْ ولا تحزنْ، فقد نُصرتَ منذُ الأَزلِ، وما أنت فيه هو تأكيدُ ذلكَ، كلُّنا به جِنّةٌ إلّاكَ، أدركتَ الطريقَ، لم تلتفتْ خلفَكَ، لم تُثنِكَ المُغرِياتُ، لم تَخفْ من كلِّ المعاركِ الواهيةِ في عقلِكَ، تحمّلتَ أكثرَ ممّا لا يتَحمّلُ مُعظَمُنا؛ بينما ندَّعي القوةَ والبأسَ، كلُّ تلكَ السنواتِ لم تَنَلْ من عِزّتِكَ وشرفِكَ، لم تَنلْ من بصيرتِك، لم تَنلْ من قلبِك، فأحيَّتْنا كلماتُكَ الصادقةُ التي خرجتْ دونَ تزيينٍ أو تزييفٍ.

مَهما شتَّتَنا همومُ الحياةِ ومشاغلُها التي سكنتْ عقولَنا حتى أرهقتْها، فقد عُدنا لنُدرِكَ أنّ الغايةَ ما تزالُ واحدةً، والبوصِلةَ لم تَنحرفْ يوماً؛ حتى وإنِ انحرفَ بعضُنا قصداً أو جهلاً؛ سرعانَ ما نعودُ؛ تُرشِدُنا قلوبُنا؛ يدُلُّها قلبُكَ الذي عزَّ فنَصرَ؛ وإنْ كثُرتْ المصاعبُ، فالصبرُ زينٌ.. يا منصورُ، وإنما يوَفَّى الصابرونَ أجرَهم بغيرِ حسابٍ.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى