
لـ”غرزة وخيط”
طُرز ليروي أصلَ الحكاية ، ويثبتَ للعالم هويةَ هذه الأرض، فمن كلِّ قريةٍ ومدينةٍ؛ خرجتْ قصةٌ من وحي سكانِها والبيئةِ من حولهم، قصة ترويها الجدّاتُ والأمهاتُ بأناملهنّ الحنونة؛ لينتِجنَ لوحة فنية تتباهى به المرأةُ الفلسطينية، وترتديه في المناسباتِ الوطنيةِ والاجتماعية، وتقتنيهِ المرأة الغربيةُ على اعتباره موروثاً ثقافياً يشكلُ نتاجاً حضارياً عبرَ آلافِ السنين، وقد تطورَ هذا الإرثُ ليواكبَ الحياة المعاصرةَ، ويحتفظَ بلمساتِ الأصالةِ في الفكرة، ليبقى الثوبُ الفلسطيني إلى يومِنا هذا قطعةً نفيسةً تفخرُ به المرأةُ الفلسطينية، وترغبُ في اقتنائه، أبحرتْ “غرزة وخيط” في عالمِ التطريزِ والنقلاتِ الفلاحيةِ والمدنيةِ؛ مع نخبةٍ من المختصينَ والعاملينَ في هذا المجال.
إنّ التطريزَ بأشكالِه المختلفةِ سِمةٌ من سِماتِ الشعبِ الفلسطيني، وجزءٌ من تراثِه الوطني، توارثتْهُ الأجيالُ جيلاً بعد جيل، ويشرحُ الأستاذ رشاد المدني (محاضرٌ في قسمِ التاريخِ والآثارِ بالجامعة الإسلامية) عن هذا الفنِّ؛ بأنه مَظهرٌ من المظاهرِ الخاصةِ التي تُميزُ هذا الشعبَ عن غيرِه من الشعوبِ، فهو يقومُ بتطريزِ ملابسهِ بنفسِه؛ يدوياً باستخدامِ الإبرةِ والخيطِ، مما يحتاجُ إلى صبرٍ وقدرةٍ على التحملِ، وهذه ميزةٌ يتحلّى بها الفلسطينيونَ أكثرَ من غيرِهم، ويعدُّ فنُّ التطريزِ الفلسطيني الحديثِ؛ هو تتويجٌ واستمرارٌ لخبرةِ ثلاثةِ آلافِ عامٍ أو يزيدُ، حيثُ كان الكنعانيون يلبسون الملابسَ المطرّزةَ للجنسينِ، ولمختلفِ الأعمارِ، واقتبسوا الزخرُفَ والنقلاتِ من الطبيعةِ التي حولهم.
خيوط متناسقة
يتابع أ. المدني قائلا: “وتتميزُ خيوطُ التطريزِ في الثوبِ الفلسطيني، باللونِ الأحمرِ الداكن في معظمِ الأحوالِ، إضافة إلى الألوانِ الأخرى المساعدةِ، وغالباً ما يكونُ التطريزُ في معظمِ أجزاءِ الثوبِ؛ كالأكمامِ والصدرِ والظهرِ والذيل، أمّا الأشكالُ فهي متنوعةٌ ومختلفةُ حسبَ المنطقةِ التي تمَّ فيها التطريزُ، فمناطقُ الشمالِ لها طابعٌ مميزٌ عن مناطقِ الجنوب، والمدينة يختلفُ تطريزُها عن القريةِ، فالبيئة تختلفُ، والحياةُ الاجتماعيةُ والمهنيةِ، وأذواقُ السكانِ كلُّها تختلف، حيثُ أنّ هذا الفنَّ يتغيرُ مع تغيُّرِ الظروفِ والأوضاعِ، فقبل نكبةِ فلسطين كان هناك مسمَّياتٌ عديدة لأنواعِ التطريز والأساليبِ المستخدمةِ، فمثلاً تسمّى الخيوط والقماشُ المستعمَل: (النجوم، قرص العسل، النخل العالي، عرق الورد) ولكنْ بعد عام( 1948 )واكبَ فنُّ التطريزِ الحياة الجديدةَ لهذا الشعبِ، وظهرتْ مسمياتٌ مختلفة عن السابقِ، سيطر عليها العاملُ النفسي والاجتماعي، فطغَى عليه حيثياتُ النكبةِ والمعاناة”.
تحدثتْ الحاجة “سعدة الوحيدي” 86 سنة ؛عن الثوبِ الفلسطيني الذي طرّزتْ منه الكثيرَ، وعن أهمِّ النقلاتِ التي تستخدمُ في هذا النوعِ من الأثوابِ، وهي: (المثلث، النجمة الثمانية، الدائرة، المربع، المعين) ومن هذه الأشكالِ الأساسيةِ أبدعتْ المرأة الفلسطينية، وطرّزتْ الكثيرَ من الأشكالِ من وحي البيئةِ التي حولَها ؛(كالزهور والأشجار والمباني والعصافير والديك الرومي) وغيرِها، ومن هنا أتى اختلافُ النقلاتِ بين المدن والقرى، وقد كان في الماضي لكلِّ جهةٍ من الثوبِ نقلاتُه الخاصة، فلا يجوزُ تطريزُ ما هو على الصدرِ مثلاً ؛على منطقةِ الأكمامِ أو الخلف، لأنّ ذلك يُخِلُّ بشرطٍ أساسٍ، وهو الخروجُ عن تراثِ الأجدادِ الذي يعوُ إلى آلافِ السنين، وفي نفسِ الوقتِ للمحافظةِ على التقاليدِ المتّبعةِ؛ لنقلِها إلى الأبناءِ والأحفادِ بطريقةٍ صحيحةٍ دونَ مغالطاتٍ فنيةٍ؛ قد تُفقدُ الثوبَ والتطريزَ مصداقيتَه التراثيةَ والفنية، أمّا اليوم اختلطَ الحابلُ بالنابلِ في النقلاتِ والوحداتِ التطريزيةِ، وأماكنِها على الثوبِ، وألوانِ التطريزِ؛ لينتجَ في النهايةِ ثوبٌ حديثٌ مليء بالموضةِ، مختلفٌ عن الثوبِ الأصلي في تفاصيلِه، ولكنه يحتفظُ بشكلِه العامِ وطابَعِه التراثي.
لكل ثوب مواصفات
والأثوابُ الفلسطينية متشابهةٌ في مظهرِها العام، ولكنّ كلَّ مدينةٍ لها ثوبُها الذي يميّزُها ؛سواءً بلونِ القماشِ ونوعيتِه، أو الغُرزِ المستخدَمةِ في التطريزِ وألوانِها وأنواعِها وأماكنِ التطريزِ في الثوبِ، إلاّ أنّ السماتِ العامةَ تظلُ كما هي، وبالتالي يحتفظُ الثوبُ بطابعهِ الفلسطيني الخاص، المُعبِّرِ عن تاريخِ الشعبِ ومراحلِ حياتهِ السياسيةِ والاجتماعية، ويشرح عن هذا الاختلاف أ. المدني قائلا: “اشتهرتْ مدينةُ الخليل بالثوبِ “القَروي” المنسوجِ يدوياً بالنولِ الذي يصبغُ بالنيلةِ الزرقاء، حيث كان القرويون يأتون المدينةَ للتسوقِ وشراءِ الأقمشةِ من سوقِ الجمعة، وقد اشتهرتْ قرى الخليل بكثافةِ التطريزِ على الأثوابِ، وكثرةِ ألوانِ التطريزِ، وتعدُّدِ رسوماته.
أمّا ثوبُ يافا، فهو غاية في الإتقانِ والدقةِ والأناقة، حيث نلاحظُ وحداتِه الزخرفيةَ محاطةً برسوماتِ شجرِ السرو، التي تحيطُ بياراتِ البرتقال، ويشتهرُ الثوبُ المجدلاوي أنه مصنوعٌ من القماشِ الأبيضِ ذو فتحةٍ كبيرةٍ في عند منطقةِ الصدرِ المزخرفةِ بنقوشٍ ونقلاتٍ على أشكالٍ مختلفةٍ من خيوطِ الحريرِ الملونةِ، ويتميزُ هذا الثوبُ بأنّ طرَفَه السفلي له تعرُّجاتٌ تشبِهُ المثلثاتِ، تتواصلُ على ذيلِ الثوبِ كاملاً بشكلٍ جميلٍ ورائع، ويشتهرُ الثوبُ الغزاوي برسوماتِه التطريزيةِ المميّزة، والوحداتِ الهندسيةِ الكبيرة.
الأحمر القانىي
أمّا الثوبُ المقدسي ،والذي يرتديهِ سكانُ القدس وضواحيها من القرى ،يميِّزُه اللونُ الأحمرُ القاني، وأحياناً يصنعُ من اللونِ الأصفرِ المائلِ إلى الكمُّوني، ويحملُ الثوبُ مطرّزاتٍ على شكلِ زهورِ بمختلفِ الألوان”. أمّا نسوةُ بئر السبع فتتحدثُ الحاجة “الوحيدي” عنهنّ بأنهنّ نسّاجاتٌ ماهراتٌ، يغزِلنَ الصوفَ، ويلوِّنَّه ويُحِكنَه، وتخاطُ أثوابُ نساءِ القبيلةِ من القماشِ الأسودِ، وهو أعرضُ بكثيرٍ من أثوابِ المناطقِ الأخرى، ويزيَّنُ القسمُ الأسفلُ من واجهتِه الأماميةِ بالتطريزِ الفلاحي، ولونُ التطريزِ يعكسُ الحالةَ الاجتماعيةَ للمرأةِ، فالعروسُ البِكرُ تزيّنُ ثوبَها باللونِ الأحمر، والأرملةُ تزينُ ثوبَها باللونِ الأزرق، ومن مميّزاتِ الثوبِ “السبعاوي” الحاشيةُ العريضةُ لأسفلِ الثوبِ، المُحلاةُ بغُرزة “المدّ” من اللونينِ الأزرقِ والأحمرِ.
وتحتاجُ المرأة الماهرةُ إلى أكثرَ من يوم كاملٍ لتطريزِ كُرةٍ واحدةٍ؛ طولِ خيوطِها المتصلةِ يتجاوزُ ثلاثينَ متراً؛ لتغطّي بالكادِ مساحةً صغيرةً من الثوب، هذا ما قالتْه الحاجة “الوحيدي” وهي تروي قصة تطريزِ وحياكةِ الثوبِ الفلسطيني، فبعدَ اختيارِ نوعِ القماشِ ولونِه؛ يتمُّ انتقاءُ موديل الثوبِ، وتقصُّ قطعة القماشِ إلى سبعِ قطعٍ منفصلة، وبعد ذلك يتمُ اختيارُ أنموذجَ التطريزِ، وأشكالَ النقلاتِ، وألوانَ ونوعَ خيطِ الحريرِ، وبعد تطريزِ القطعِ السبعةِ في أماكنَ القبّة والأكمامِ والذيلِ؛ يتمُ تجميعُ هذه القِطعِ وحياكتُها وحَبكُها، وإضافةُ أيِّ حُلي إضافيةٍ بعد ذلك.
ونرى حرصَ الأجنبياتِ على اقتناءِ مثلِ هذه الأثوابِ، بل ويتهافتنَ على شرائها، مَهما زادَ سعرُها، وقد أعزى أ. “العفيفي” هذا إلى أنهنَّ يهوَينَ العملَ اليدوي المتقَنَ، ويفضِّلنَه عن عملِ الماكينةِ، ويَعدُدْنَ هذا الثوبَ لوحةً فنيةً تستحقُّ الاقتناءَ والتقديرَ، وأنه تحفةٌ لا تقدَّرُ بثمنٍ، كما وترى بعضُهنَّ في الثوبِ الفلسطيني دعماً للقضيةِ الفلسطينيةِ وعدالتِها وأحقيَّتَها في هذه الأرضِ.
وعن السعر الباهظِ الذي وصل له الثوبُ في هذه الأيام؛ تتحدثُ الأستاذة انتصار العفيفي (مديرة جمعية البيت الصامد) قائلة: “كانت النسوةُ في الماضي يطرِّزنَ أثوابَهنَّ بأيديهنَّ، بعد تدبيرِ أمور منازلهنَّ المتواضعةِ، ويتجاذبنَ أطرافَ الحديثِ أثناء تطريزِ عصفورٍ؛ وقفَ على غصنِ الشجرةِ التي تُظِلهُنَّ، أو تطريزِ زهرةٍ في الحديقة بجوارِهنّ، ويتبادلنَ نقلاتِ التطريزِ، وتضعُ كلٌّ منهنَّ لَمستَها وذوقَها ،فلا يكلفُهنَّ ذلك إلا ثمنَ الخيوطِ والأقمشةِ، ليصنعنَ أثوابهنَّ وأثوابَ بناتِهنَّ، أمّا اليوم.. تغيَّر نمطُ الحياة كلياً، وتغيرتْ الأذواقُ، وباتت صناعةُ الأثوابِ مهنةً تمتهِنُها بعضُ النسوةِ لكسبِ الرزقِ، ما زاد من سعرِ هذه الأثوابِ، هذا بالإضافةِ إلى ازديادِ سعرِ الخيوطِ والأقمشةِ عنها في الماضي، وإذا كانت بعضُ هذه النسوةِ تابعاتٍ لجمعيةٍ أو مؤسسةٍ؛ فإنّ للجمعيةِ نسبةً إضافيةً، لذلك وصلَ سعرُ الأثوابِ لِما هو عليه اليوم”.
لمسات عصرية
وعن دمجِ أصالةِ هذا الثوبِ بالحداثةِ والمعاصَرةِ؛ توضح أ. العفيفي قائلة: “إنّ الثوبَ الفلسطيني بقيمتِه المعنوية والماديةِ؛ لباسٌ يصلحُ لكلِ زمانٍ، حيث ترتديهِ النساءُ تفاخراً وتباهياً في المناسباتِ الاجتماعية، وتعُدُّه فلكلوراً شعبياً؛ ترتديه في المناسباتِ الوطنيةِ والرسمية، وبإضافةِ لمساتٍ من الحداثةِ استطعنا أنْ نطوّرَ هذا الموروثَ، بدمجِ نقلاتِ التطريز القديمةِ مع النقلاتِ الحديثة، واستخدامِ الخرزِ، وإدخالِ الكروشيه والشيفون لإضفاءِ لمسةٍ عصريةٍ على أقمشةِ الأثواب. وموديلُ الثوبِ نفسِه تمَّ تطويرُه بابتكارِ قصّاتٍ جديدة ٍعند الخصرِ والقَبّة، وفي الأكمامِ والذيلِ، حتى بات تحفةً أصيلةً مُحدثةً؛ ترغبُ في ارتدائه صبايا هذه الأيام”.
ومهما زادت قيمتُه المادية؛ تبقى قيمتُه المعنويةُ تغفرُ هذا الازديادَ، حيث كان وما زال بصمةً تتباهى به المرأةُ الفلسطينيةُ، وتروي أصلَ الحكايةِ، ولهذا يشجّعُ أ. “المدني” على ارتداءِ الثوبِ الفلسطيني، بدافعِ الحفاظِ على التراثِ الذي تحاولُ إسرائيلُ طمْسَه وإبعادَه عن الشعبِ الفلسطيني؛ ليفقدَ أحدَ الدلائلِ القويةِ على وجودِ ه في هذه الأرضِ منذُ آلافِ السنين، كما وتؤكّد أ. “العفيفي” أنه من واجبِ الجمعياتِ والمعنيينِ بالتراثِ الفلسطيني؛ المحافظةُ على هذا الإرثِ، والاستمرارُ في تطريزِه وحياكتِه، فهو يمثلُ هُويَّتنا وتراثَنا الفلكلوري، ويُعَدُّ وثيقةَ وجودٍ تربطُنا بالأرض، وإصبعاً في عينِ المحتلِّ الغاشمِ، ليُثبِتَ أنّ الأرضَ لنا نحن.. ونحن فقط.