
تحقيق : ديانا المغربي
فرضتْ سطوةُ الإنترنت والإعلامِ الرقمي الجديدِ، أنماطاً مغايرةً من الاهتمام؛ اتّجهَ معظمُها نحوَ منصّاتِ التواصلِ الاجتماعية، التي أفرزتْ اليومَ فئةً مختلفةً من الموضوعاتِ والاهتمامات، وحتى الشخصياتِ التي تتصدّرُ المشهدَ الافتراضي، والذين يسمّونَ أنفسَهم مؤثرينَ أو مشاهيرَ.
ظاهرةُ مشاهيرِ مواقعِ التواصلِ باتت جزءاً من حياةِ المواطنِ الغزي المطحونِ بشقَّيهِ الإيجابي والسلبي، ولا يمكنُ إنكارُ أنّ هؤلاء المشاهيرَ أصبحوا يحظونَ بقواعدَ جماهيريةٍ كبيرةٍ من المتابعينِ، الذين يحرصونَ على مشاهدةِ كلِّ ما يبثّونَه من مقاطع فيديو، أو ما يكتبونِه على المنصّاتِ المختلفة، بل إنّ تأثيرَهم بلغَ مدًى واسعاً أدّى إلى اعتبارِهم فئةً “مؤثّرةً” أكثرَ من كونِهم مجردَ “مشاهير”؛ الأمرُ الذي تفسّرُه تجارةُ الإعلاناتِ التي راجتْ مع هذه الفئةِ.
مميَّزٌ وهادفٌ
“إيمان الشنطي”، واحدةٌ من الإعلامياتِ التي قررتْ الدخولَ إلى عالمِ التأثيرِ عبرَ المحتوَى الحقيقِ؛ نتيجةَ شعورِها بضعفِ المحتوى الفلسطيني ومحاربتِه بكُلِّ الوسائلِ؛ علاوةً على غيابِ المعرفةِ بالقضيةِ الفلسطينيةِ وتفاصيلِها ومراحلِها، والأحداثِ الجسامِ التي مرّتْ فيها.
كانت بدايةُ “إيمان” مع برنامجِ “هون وعون” الاجتماعي الكوميدي، والذي من خلالِه حاولتْ التعبيرَ عن بعضِ العاداتِ والتقاليدِ والسلوكياتِ الصحيحةِ في المناسباتِ الاجتماعيةِ والدينيةِ؛ ثُم اتّجهتْ إلى المحتوَى التاريخي التثقيفي من خلالِ برنامجِ “أصلُ القصة “، والذي خُصّصتْ حلقاتُه للحديثِ عن فلسطينَ (تاريخًا وجغرافيا وعاداتٍ وتقاليدَ ومواريثَ ثقافيةً واجتماعيةً) مختلفةً.
وعلى الرغمِ من أنّ محتوى ما تنشرُه “إيمان” مميّزٌ وهادفٌ إلّا أنها تعاني كما يعاني كلُّ صناعِ المحتوى الهادفِ على السوشيال ميديا من قلّةِ المتابعينَ، أو حجمِ المشاهداتِ على الرغمِ من استخدامِها كافةَ الفنونِ اللازمةِ لجذبِ انتباهِ الجمهورِ، إضافةً إلى معاناةٍ أخرى؛ وهي غيابُ المُنتِجِ؛ أو المستثمرِ؛ أو المُسوّقِ لمِثلِ هذه المُنتَجاتِ الهادفةِ.
في حين ذكرَ الإعلامي “سامي مشتهى”، صاحبُ قناةِ يوتيوب كبيرةٍ؛ أنّ صنّاعَ المحتوَى القيِّمِ على يوتيوب يشتَكونُ من قلّةِ المشاهداتِ، يبدأُ الشخصُ بعملِ (20) فيديو؛ ثُم لا يجدُ مُشاهداتٍ فيشعرُ بالفشلِ؛ ورُبما الانسحابِ.
ينوّهُ “مشتهى”: إنّ القنواتِ التي تحتوي على فيديوهاتٍ قيّمةٍ متنوعةٍ؛ اعتمادُها الأولُ لا يكونُ على المشتركينَ! يعني الاعتمادُ الرئيسُ يكونُ على محرّكِ البحثِ؛ وهنا أصلُ المشكلةِ؛ فإذا كان النشرُ صحيحاً للفيديو، وهناك مراعاةٌ جيدةٌ ل( SEO) من وصفٍ جيدٍ، ويكونُ زخمٌ بالكلماتِ البحثيةِ، وصورةٌ مشوّقةٌ، وعنوانٌ جذابٌ؛ يبقى عاملُ الوقتِ هو الأساسُ!
ويضيفُ: قنواتُ يوتيوب نوعانِ؛ النوعُ الأولُ “اليوتيوبرز” الترفيهي؛ وهذا النوعُ تجدُ مشاهداتِه لحظيةً؛ يعني خلالَ ( 48 )ساعةً يصلُ الفيديو أكثرَ من (100.000) مشاهدةٍ؛ لأنه يعتمدُ على المشتركينَ أكثرَ من مُحرّكِ البحثِ، أمّا النوعُ الثاني فهي القنواتُ التي تعتمدُ في المشاهداتِ على محرّكِ البحثِ، وأكبرُ مثالٍ على ذلكَ؛ قنواتُ التثقيفِ والمعرفةِ؛ يكونُ لدَى القناةِ مليونُ مشتركٍ؛ لكنّ آخِرَ فيديوهاتِها تحصلُ على عشرةِ آلافِ مشاهَدةٍ فقط!
محتوي سطحي
وفى الحقيقةِ لا يَخفَى على أحدٍ من المتابعينَ أوِ الخبراءِ أوِ المهتمينَ؛ أنّ المحتوَى الترفيهي السطحي لا يعاني مِثلَما يعاني المحتوى الهادفُ؛ بدلالةِ أنه أكثرُ الصفحاتِ أوِ القنواتِ متابعةً عبرَ قطاعِ غزةَ؛ هي التي تروّجُ “للطعامِ، والشرابِ، والتسوقِ، والمكياجِ، والموضةِ‘ والتقليدِ، والغناءِ، والمحاكاةِ للأفلامِ والمسلسلاتِ” ونكادُ للأسفِ نفتقرُ لوجودِ أيِّ محتوى مؤثّرٍ لأحدِ هؤلاءِ المشاهيرِ.
الإعلاميةُ “فداء المدهون”، لا تُخفي استغرابَها الواضحَ من ظاهرةِ غيابِ مشاهيرِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي من أصحابِ المحتوى الهادفِ، وتعتقدُ أنّ المرحلةَ المقبلةَ ستعيدُ تعريفَ (المؤثّرين) على هذه المنصاتِ، كما ستكونُ (كالفلترِ) الجديدِ المتكفّلِ لاحقاً بتصفيةِ الكثيرِ من الظواهرِ العابرةِ على وسائلِ التواصلِ، وفرزِ مَن كان (فاعلاً) و(فعَالاً).
خاصةً أنّ هناكَ أصواتاً كثيرةً اليومَ بدأتْ بمحاربةِ صانعي المحتوى الهابطِ وغيرِ اللائقِ، وأنا شخصيًا أثِقُ هنا بذكاءِ وفطنةِ الجمهورِ والمتابعينَ، وقدرتِهم على الإلمامِ طبعاً بكُل هذه الأحداثِ.
من وِجهةِ نظرِ “عادل كباجة”، المتخصصِ في السوشيال ميديا، فإنّ غيابَ مشاهيرِ التواصلِ الملاحظِ عن صناعةِ محتوًى هادفٍ؛ يعودُ في الأصلِ إلى عدمِ أهليّتِهم للخوضِ في الموضوعاتِ الهادفةِ.
موضّحاً: هذه الفئةُ _حسبَ رأيي_ غيرُ مؤهّلةٍ لتقديمِ هذا الدورِ من التأثيرِ والتحريكِ والتعبئةِ؛ في ظِل عدمِ امتلاكِ أغلبِهم الخبرةَ الكافيةَ لملاءمة المحتوى الذي يقدّمونَه مع متطلباتِ الحياةِ الغزيةِ، ولأنّ شهرتَهم أو تواجدَهم عبرَ السوشيال ميديا غيرُ عائدٍ الى كونِهم شخصياتٍ مبدِعةً أو معبّرةً أو صانعةَ محتوًى جيدٍ، وإنما في الأصلِ عائدٌ لأنهم يجيدونَ الطهيَ أوِ التصويرَ أوِ المكياج (الترفيه) بصفةٍ عامةٍ.
شهرةٌ زائفةٌ
من جانبِه يقولُ أستاذُ علمِ النفسِ محمود منصور:” إنّ خطرَ وجودِ ما يُسمّى “المشاهير” يَكمنُ في أنهم كوّنوا قاعدةً جماهيريةً كبيرةً أغلبُها من صغارِ السنِّ (المراهقينَ والشبابِ) من الجنسينِ، فمِن المعروفِ أنه يسهلُ التأثيرُ على هذه الفئةِ عبرَ الإلحاحِ في العرضِ؛ وهذا ما يعملُ عليه المشاهيرُ؛ لأسبابٍ تتعلقُ بتجارتِهم الخاصةِ، وشهرتِهم الزائفةِ، وزيادةِ مدخولِاتهم المالية.
ولفتتْ “منصور” إلى أنه لا غبارَ على هذا التأثيرِ مبدئياً؛ في حالِ أدركَ المشهورُ مدَى خطورةِ ما يطرحُه عبرَ منصاتِ التواصلِ الاجتماعي؛ التي يتابعُه من خلالِها ملايينُ الشبابِ، مضيفاً أنه للأسفِ بعضُ هؤلاءِ المشاهيرِ لا يدركونَ هذه الخطورةَ، وجُلُّ ما يهمُّهم هو عرضُ مادةٍ تجذبُ الشبابَ من أجلِ شهرتِهم ومن ثم زيادةُ قيمةِ إعلاناتِهم.
وأشار إلى أنّ بعضَ هؤلاءِ المشاهيرِ يدركونَ أنّ المتابعينَ يشعرونَ بالمَللِ من متابعةِ الشخصياتِ ذاتِها لمدّةٍ طويلةٍ؛ ما يدفعُهم إلى إلغاءِ المتابعةِ؛ وتدارُكاً لذلك؛ وحتى يحتفظَ بعضُ المشاهيرِ بمتابعيهِم؛ يحرصونَ على زيادةِ الجرعةِ من السطحيةِ والتفاهةِ، وأحياناً قد يصلُ الأمرُ في الانحلالِ بما يعرضونَه لتتمَّ إثارةُ فضولِ متابعيهم لجعلِهم في دائرةِ المتابعةِ والاهتمامِ.
ويستطردُ: إنّ المتابعةَ المتواصلةَ لساعاتٍ طويلةٍ من اليومِ لبعضِ المشاهيرِ؛ تتخلَّلُها متابعةُ تفاهاتِ البعضِ منهم، ومشاكلِهم، واستخدامِ المفرداتِ الخارجةِ والسلوكياتِ السلبيةِ والتراشقِ بينَهم في وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، وعرضِ حياتهِم الشخصيةِ الخاصةِ للجميع، وعندما ينتقدُهم أحدٌ ما يرفضونَ ذلك؛ ما يؤثّرُ سلبًا على سلوكياتِ المتابعينَ، خصوصاً المراهقينَ منهم، مضيفاً أنّ هناكَ من المشاهيرِ ممّن يتباهَى بما يلبسُ أو يملكُ، وبما لدَيه من ماركاتٍ وأشياءٍ كثيرةٍ، التي يتسارعُ البعضُ لتقليدِهم.
وشدَّدَ على ضرورةِ أنْ يكونَ المتلَقي على ثقافةٍ عاليةٍ ووعيٍّ؛ ليعرفَ ما يفيدُه وما يمكنُ اكتسابُه من أمورٍ إيجابيةٍ منهم، خصوصاً أنّ بعضَهم يعكسُ صورةَ مجتمعِنا الغزي بصورةٍ سلبيةٍ وبطرُقٍ مُنفِّرةٍ.
ودعا “منصور” المشاهيرَ إلى ضرورةِ توَخي الحذرِ في استخدامِ المفرداتِ والصورةِ؛ التي يظهرونَ بها من خلالِ هذه البرامجِ الموجودةِ في متناولِ الجميعِ، خصوصاً الأطفالَ والمراهقينَ من الجنسينِ، واحترامِ الذوقِ العام وثقافتِنا العربيةِ، مشدّداً على ضرورةِ تقديمِهم مادةً تفيدُ المجتمعَ، وعدمِ المتاجرةِ في مناحراتِهم وخلافاتِهم، وعدمِ نشرِ الإشاعاتِ، خصوصًا في ظِل الظروفِ السياسيةِ المحيطةِ.
لا قيمةَ ولا اعتبارَ
أمّا أستاذُ علمِ الاجتماعِ عروب الجملة فتقولُ لـ “السعادة”، إنّ للتواصلِ الاجتماعي تأثيراً على حياةِ الشخصِ وسلوكياتِه وتصرفاتِه، إيجاباً وسلباً، مضيفةً أنه مع الأسفِ الشديدِ؛ السلبياتُ طغتْ على الإيجابياتِ، فانتشارُ ظاهرةِ مشاهيرِ برامجِ “الانستغرام، والسناب شات، والتيك توك”، أصبح واقعاً يجبُ التعايشُ معه، لافتةً إلى أنّ بعضَ المحتوى الذي يتمُ تقديمُه ليس له قيمةٌ فعليةٌ وإيجابيةٌ على المجتمعِ.
ولفتتْ إلى أنه أحياناً تصدرُ سلوكياتٌ خاطئةٌ من قِبلِ هؤلاءِ المشاهيرِ؛ قد تكونُ بسيطةً؛ إلّا أنّ المجتمعَ يتداولُها بشكلٍ كبيرٍ عبرَ الحديثِ عنها في التجمعاتِ المختلفةِ؛ ما يجعلُ المشهورَ يكسبُ متابعينَ أكثرَ من الفئةِ التي ترغبُ في إرضاءِ فضولِها؛ فتقومُ بمتابعتِه على أثرِ رغبتِها في معرفةِ تفاصيلَ أكثرَ عن السلوكِ الذي أصبح حديثَ المجتمعِ.
ويصبحُ السلوكُ الخاطئ؛ أو السلوكُ الذي لا يَحملُ أيَّ قيمةٍ أو اعتبارٍ موضوعاً جدلياً، ومحلَّ نقاشِ العامةِ. وألمحتْ “الجَملة” إلى أنّ بعضَ المشاهيرِ يَعرِضونَ حياتَهم الخاصةَ للمتابعينَ، وشريحةٌ كبيرةٌ من المجتمعِ ترفضُ السلوكياتِ التي تتخلَّلُها حياتَهم الخاصة، إلا أنهم يُظهرونَها كسلوكٍ طبيعي ومقبولٍ في المجتمعِ.
وأشارتْ إلى أنّ بعضَ المتابعينَ أيضاً يساهمونَ في انتشارِ هذه السلوكياتِ الخاطئةِ، ضاربةً المَثلَ في مشاهدِ الخلافاتِ بين المشاهيرِ أنفسِهم؛ إذْ إنّ متابعي كلِّ مشهورٍ قد يؤيّدونَه في خلافهِ مع الطرَفِ الآخَرِ؛ ما يساهمُ في استمرارِه في هذا السلوكِ.
لفتتْ إلى أنّ بعضَ المشاهيرِ يستخدمونَ ألفاظاً تسبّبُ تلوُّثاً سمعياً للمتابعينَ؛ ويتمُ تداولُها من قِبلِ المشهورِ؛ وكأنها ألفاظٌ طبيعيةٌ، مشيرةً إلى أنّ عدمَ وجودِ ردّةِ فعلٍ مجتمعيةٍ قويةٍ تُجاهَ هذه السلوكياتِ السيئةِ؛ تسبّبتْ بانتشارِها، وعدمَ كبحِ هذه الظاهرةِ السلبيةِ، مشدّدةً على أنّ المسؤوليةَ الاجتماعيةَ تقعُ على عاتقِ المجتمعِ لمحاربةِ السلوكياتِ السلبيةِ.
المسؤوليةُ المجتمعيةُ
أشارتْ إلى مبدأ المسؤوليةِ الاجتماعيةِ؛ سواءٌ على الجانبِ الذاتي أو على مستوى المجتمعِ، مضيفةً أنّ بعضَ القياديينَ، ورجالِ الأعمالِ والشركاتِ ومؤسساتِ المجتمعِ المدَني هم مَن يعطونَ قيمةً لهؤلاءِ المشاهيرِ من خلالِ دعوتِهم في المؤتمراتِ والفعالياتِ، ويتمُ تكريمُهم وجلوسُهم في المقاعدِ الأماميةِ، بينما يتمُ تجاهلُ المجتهدينَ والإيجابيينَ، حيثُ لا يحظونَ بالتكريمِ ذاتِه.
وتختمُ “الجَملة” حديثَها: هؤلاء ليسوا (مؤثّرين) وإنما (منتشرونَ) عبرَ وسائلِ التواصلِ لأسبابٍ تسويقيةٍ لا أكثرَ، ونجاحُهم في هذا الشكلِ يعودُ إلى دراساتٍ اقتصاديةٍ لها علاقةٌ بسلوكِ الفردِ والمجتمعِ؛ لذا أعتقدُ بالتالي أنّ سقوطَهم بات متوَقّعاً؛ كسقوطِ أيِّ سلعةٍ تجاريةٍ يملُّ منها الجمهورُ .