
تحقيق :ديانا المغربي
تشعرُ جميعُ الأمهاتِ بالسعادةِ الغامرةِ بعدَ قدومِ مولودِهِنَّ؛ لكنّ البعضَ منهنَّ يَحمِلنَ مشاعرَ أخرى مختلِطةً، فالمرأةُ بعدَ الولادةِ تمرُّ بخليطٍ من المشاعرِ؛ كأنْ تكونَ سعيدةً؛ وترغبَ في رعايةِ طفلِها واحتضانِه؛ لكنها خائفةٌ ومتوتّرةٌ وقلِقةٌ؛ وتشعرُ بين الفينةِ والأخرى بحاجتِها إلى البكاءِ .
هذه المشاعرُ عِلمياً _وحسبَ وِجهةِ نظرِ المختَصُّونَ_ تُرافقُ السيدةَ لمدّةِ أسبوعينِ؛ إلّا أنه في بعضِ الحالاتِ تزدادُ حِدّةُ المشاعرِ السلبيةِ؛ وتتحولُ إلى ما يُعرَفُ باكتئابِ ما بعدَ الولادةِ.
بحسبِ المختصّينَ يُمثَّلُ هذا النوعُ من الاكتئابِ اضطراباً في المزاجِ؛ فتَشعرُ الأُمُّ بحزنٍ شديدٍ، وقلقٍ وإرهاقٍ، وتَجِدُ صعوبةً في تقديمِ الرعايةِ اليوميةِ اللازمةِ لطفلِها؛ أو حتى لنفسِها.
ويصيبُ اكتئابُ ما بعدَ الولادةِ (15%) من الأمهاتِ؛ وقد يبدأُ قبلَ الولادةِ؛ أو بعدَها مباشرةً، وتَتباينُ فترةُ علاجِه؛ فقد تستمرُّ لأشهُرٍ أو لسنواتٍ، ولا يقفُ تأثيرُه عندَ الأمِّ فقط؛ بل يَصِلُ إلى الأبِ، ورُبما الطفلِ نفسِه لعدمِ توفيرِ الرعايةِ الملائمةِ له؛ ما يعرِّضُه لمشاكلَ في النموِّ والتطورِ.
وعلى الرغمِ من انتشارِ المُصطَلحِ؛ وسَماعِه بكثرةٍ في السنواتِ الأخيرةِ؛ إلّا أنّ الجهلَ أو وَصمةَ العارِ المجتمعيةَ تُجاهَ الأمراضِ النفسيةِ؛ يجعلُ الاعترافَ باكتئابِ ما بعدَ الولادةِ تُهمةً لا تُغفَرُ للنساءِ؛ من قِبلِ الأزواجِ والعوائلِ والمجتمعِ.
“بكَفّي دلَع”
شيماء “33 عاما “، تقولُ لـ “السعادة “: مرَرْتُ باكتئابٍ بعدَ إنجابي طفلي الأخيرَ، فبعدَ أسابيعَ على ولادةِ طفلي؛ بدأتْ عندي نوباتُ بكاءٍ وغضبٍ مُعظمَ الوقتِ، عدمُ رغبةٍ بالأكلِ، اضطراباتٌ بالنومِ، والعنايةُ بطفلي بلا شغفٍ، كأنه واجبٌ فقط! في البدايةِ، لم أقُلْ شيئًا، حتى أني فعلتُ المستحيلَ كي لا أبكي أمامَ زوجي.
لكنْ في مرّةٍ، تجرّأتُ وأخبرتُ والدتي بحالتي؛ فكان ردُّها الأولُ “بِكَفّي دلع!”، أما شقيقتي الكبرى أخبرتْني بأنّ هذه “هرموناتٌ”؛ وستَذهبُ مع الوقتِ، وأنّ كلَّ النساءِ يتعرّضْنَ إلى هذه الأمورِ؛ على الرغمِ من معرفتِهم بالظروفِ القهريةِ التي تعرّضتُ لها أثناءَ الحملِ والولادةِ.
وتُتابعُ: اقتنعتُ بما قالوه.. لكني مع الوقتِ عرفتُ أنني ليس لَدَيَّ وَعيٌّ كافٍ بما يتعلقُ بالصحةِ النفسيةِ، وأنني فعلاً مصابةٌ باكتئابِ ما بعدَ الولادةِ؛ وأحتاجُ إلى علاجٍ نفسيٍّ كاملٍ، لاسيّما وأنني أصحبتُ إنسانةً عصبيةً جداً، تنهارُ في دقائقَ، متوتّرةً غالبيةَ النهارِ، ينتابُني وَسواسٌ كبيرٌ في كافةِ أحداثِ الحياةِ؛ ما دفعَني إلى التوَجُّهِ إلى أحدِ المراكزِ الصحيةِ؛ وطلَبِ المساعدةِ والعلاجِ.
في حين تقولُ إيمان (28) عامًا:” رزَقَني اللهُ بتَوأَمٍ؛ ما استَدعَى عندَ خروجي من المستشفى الذهابَ لبيتِ عائلتي؛ حتى أتمَكّنَ من الاعتناءِ بهم؛ وهنا أعتقدُ أنها كانت البدايةَ؛ إذْ شعرتُ أنّ شريكَ حياتي غيرُ موجودٍ، وأني مسؤولةٌ عن طفلَينِ لا يَكُفّانِ عن الصُّراخِ!
وتضيفُ: بعدَ قرابةِ الشهرِ؛ عُدتُ إلى منزلي في محاولةٍ للعودةِ إلى نهجِ الحياةِ؛ وفي اليومِ الأولِ شعرتُ أنّ الأمورَ طبيعيةٌ؛ لكنْ مع مجيءِ الليلِ بدأَ طفلي بالصراخِ طيلةَ الليلِ؛ وفى الصباحِ خرجَ زوجي إلى عملِه؛ وترَكني مع طفلَينِ يتناوَبانِ على استنزافِ طاقَتي.
فقدتُ مُتَعًا كثيرةً
وتُتابعُ: فقدتُ كثيرًا من وزني؛ ثُم بدأَ الاكتئابُ يأكلُ روحي؛ حتى أفقدَني القدرةَ على الاستمتاع بالحياةِ البسيطةِ ، فلَم يَعُدْ في إمكاني الحصولُ على حمّامٍ ساخنٍ دونَ أنْ يَقطعَه عليَّ أحدُ التوأمِ منفَجرًا بالبكاءِ.
وتستطردُ: فقدتُ الرغبةَ في المُتعِ الأكبرِ؛ مِثلَ الذهابِ للتسوقِ، أو تناوُلِ الغداءِ خارجَ المنزلِ، أو زيارةِ الأقاربِ.. كنتُ دائمًا في انتظارِ اللحظةِ التي سيبدأُ فيها أحدُهم البكاءَ.
كنتُ في كلِّ صباحٍ أشعرُ بشيءٍ يُشبِهُ ومَضاتٍ ساخنةً تضربُ جسدي، وتسارُعُ دقاتِ قلبي، وتتملَكُني حالةُ رعبٍ لثوانٍ، وأتمنى لو لم أستيقظْ أبدًا لأواجِهَ نفسَ السيناريو اليومي، وتظلُّ عينايَ معلَّقتَينِ بالساعةِ، وكلُّ ما أريدُه أنْ ينتهيَ اليومُ فقط.
استمرّتْ معركتي مع الاكتئابِ شهوراً طويلةً، فلم يَعُدْ لحياتي أيُّ معنَى، علاقتي الزوجيةُ باتت على مفترَقِ طرُقٍ، حتى شعرتُ أنّ زوجي مُكتئبٌ مِثلى؛ عندَها فقط جلستُ وبُحتُ له بكُلِّ ما يجولُ بخاطري؛ وأنى بحاجةٍ إلى اهتمامِه ومساعدتِه وزيارةِ الطبيب؛ والحمدُ لله، لقد كان متفاعلاً ولم يُخبِرْ الآخَرينَ، وساعدَني كثيراً في تخَطِّي هذه الأزمةِ التي استمرّتْ قرابةَ السنتَينِ.
اختصاصيةُ أمراضِ النساءِ والولادةِ الدكتورةُ “دِينا عياد” تقولُ: إنّ العديدَ من الأمهاتِ الجُدُدِ تتعرّضُ للإصابةِ “بالكآبةِ النفسيةِ” في مرحلةِ ما بعدَ الولادةِ”؛ والتي عادةً ما تَشملُ تقلُّبَ المزاجِ، ونوباتِ البكاءِ، والقلقَ وصعوبةً في النومِ.
وتبدأُ هذه المرحلةُ عادةً في غضونِ أولِ يومَينِ أو (3) أيامٍ بعدَ الولادةِ، ويُمكِنُ أنْ تستمرَّ لمدةٍ تصِلُ إلى أسبوعينِ، وفي حالاتٍ غيرِ قليلةٍ يظهرُ اضطرابٌ مزاجيٌّ شديدٌ يُسمَّى” ذهانُ ما بعدَ الولادة”؛ من أعراضِه تقلُّبُ المزاجِ، والقلقُ، والحزنُ، والتهيجُ، والشعورُ بالإرهاقِ، والبكاءِ، وانخفاضُ التركيزِ، ومشاكلُ الشهيّةِ، وصعوبةُ النومِ.
إحراجٌ وإنكارٌ
وتضيفُ: “يتمُّ تشخيصُ أعراضِ الاكتئابِ ما بعدَ الولادةِ بطريقِ الخطأِ في بدايةِ الأمرِ؛ ولكنّ العلاماتِ والأعراضَ تكونُ أكثرَ شدّةً وأطولَ أمَدًا؛ ما يؤدّي في نهايةِ المطافِ إلى إعاقةِ قُدرةِ الأمِّ على رعايةِ طفلِها، وممارسةِ المَهامِّ اليوميةِ الأخرى، وتظهرُ الأعراضُ عادةً في غضونِ الأسابيعِ القليلةِ الأولى بعدَ الوِلادةِ، ومن الممكنِ أنْ تبدأَ في وقتٍ لاحقٍ بعدَ مدّةٍ تصِلُ إلى ستةِ أشهُرِ بعدَ الولادةِ”.
ويتضمنُ هذا الاكتئابُ _بحسبِ د. “عياد” _ الشعورَ بالحزنِ الشديدِ، أو التقلّباتِ المزاجيةَ الحادةَ، والإفراطَ في البكاءِ، وصعوبةَ التعلقِ بالطفلِ، والابتعادَ عن العائلةِ والأصدقاءِ، وفقدانَ الشهيةِ؛ أو تناوُلَ المزيدِ من الطعامِ بشكلٍ يفوقُ المعتادَ، وعدمَ القدرةِ على النومِ “الأرَق”، أو النومِ لفتراتٍ طويلةٍ، والتعبَ البالغَ أو فقدانَ الطاقةِ، وقلّةَ الاهتمامِ والاستمتاعِ بالأنشطةِ؛ التي كانت تبعثُ على المتعةِ، والانفعالَ والغضبَ الشديدَ، والخوفَ من أنها لا تمثّلُ أُمّا جيدةً، وأحاسيسَ انعدامِ القيمةِ، أو الخزيِ، أو الذنبِ أو العجزِ، وانخفاضِ القدرةِ على التفكيرِ بوضوحٍ، أو التركيزِ أو اتخاذِ القراراتِ، ونوباتِ القلقِ أو الهَلعِ الشديدةِ، وأفكارِ إيذاءِ النفسِ، أو إيذاءِ الطفلِ، وتكرارِ التفكيرِ في الموتِ أو الانتحارِ، ورُبما يستمرُّ اكتئابُ ما بعدَ الولادةِ لعدّةِ أشهُر، أو لمدةٍ أطولَ في حالةِ عدمِ علاجِه.
وتستطردُ: ” تشعرُ الأمُّ بعدمِ الاستعدادِ، أو الإحراجِ للاعترافِ بالأمرِ؛ ولكنْ في حالةِ الشعورِ بأعراضِ الكآبةِ النفسيةِ؛ يُفضَّلُ زيارةُ الطبيبِ، وأمّا في حالةِ المعاناةِ من أعراضٍ تُشيرُ إلى احتمالِ الإصابةِ بذهانِ ما بعدَ الولادةِ؛ يتوجّبُ طلبُ المساعدةِ على الفورِ، وخاصةً في حالِ عدمِ اختفاءِ الأعراضِ بعدَ أسبوعينِ، ومن المُمكِنِ طلبُ المساعدةِ من الوالدينِ أو الزوجِ .
من جانبِها تقولُ الدكتورةُ “رائدة أبو عبيد”، اختصاصيةُ علمِ نفسِ النموِّ:” إنّ المشكلاتِ البدنيةِ والانفعاليةِ تلعبُ دورًا مِثلَ التغييراتِ البدَنيةِ بعدَ الولادةِ، حيثُ يساهمُ الانخفاضُ الكبيرُ في هرمونَي (الأستروجين والبروجيسترون) في الجسمِ في الإصابةِ باكتئابِ ما بعدَ الولادةِ، وكذلكَ يُمكِنُ أنْ تنخفضَ بعضُ الهرموناتِ التي تُفرِزُها الغُدّةُ الدرقيةُ بدرجةٍ كبيرةٍ أيضًا؛ ما يجعلُ المرأةَ تشعرُ بالتعبِ والكسلِ والاكتئابِ.
مشاكلُ عائليةٌ
علاوةً على المشكلاتِ النفسيةِ؛ والتي تأتي نتيجةَ الحرمانِ من النومِ، وكثرةِ المهامِّ المرهقةِ، إذْ يمكنُ أنْ تعانيَ المرأةُ في التعاملِ مع المشكلاتِ ولو البسيطةِ، ويمكنُ أنْ تكونَ قلِقةً حولَ القدرةِ على رعايةِ مولودِها، ويمكنُ أنْ تشعرَ بقلّةِ الجاذبيةِ، أو الشعورِ بفقدانِ التحكمِ في مجرياتِ الحياةِ.
وتضيفُ: يَحدثُ اكتئابُ ما بعدَ الولادةِ بعدَ ولادةِ أيِّ طفلٍ؛ وليس الأولُ فقط، وتزدادُ مخاطرُ الإصابةِ به؛ إذا كان للأمِّ سوابقُ الإصابةِ بالاكتئابِ، سواءٌ خلالَ فترةِ الحملِ، أو في أوقاتٍ أخرى، أو كان لدَيها اضطرابٌ ثُنائيَ القطبِ، أو عانتْ من اكتئابِ ما بعدَ الولادةِ سابقا، أو أنْ تكونَ مرّتْ بأحداثٍ شكّلتْ ضغطاً نفسياً عليها خلالَ السنةِ السابقةِ.
وتقولُ: “يمكنُ أنْ يتعارضَ اكتئابُ ما بعدَ الولادةِ _إذا لم يَتِمّ علاجُه_ مع علاقةِ الترابطِ بين الأمِّ والطفلِ، بالإضافةِ إلى أنه يسببُ مشاكلَ عائليةً، وفيما يخصُّ الأمهاتِ يمكنُ أنْ يستمرَّ اكتئابُ ما بعدَ الولادةِ _الذي لم يَتِمّ علاجُه_ لمدةِ شهورٍ أو أكثرَ، ويصبحَ في بعضِ الأحيانِ “اضطراباً اكتئابياً مزمِناً”؛ وحتى إذا تمَّ علاجُه، يزيدُ اكتئابُ ما بعدَ الولادةِ من خطرِ إصابةِ المرأةِ بنوباتٍ مستقبليةٍ من الاكتئابِ الشديدِ.
وتَجزمُ “أبو عبيد” أنّ اكتئابَ ما بعدَ الولادةِ يعالَجُ عن طريقِ العلاجِ النفسي، فقد يساعدُ التحدّثُ مع الطبيبِ النفسي حولَ مخاوفِها، وما تشعرُ به، للوصولِ لطرُقٍ أفضلَ للتعاملِ مع مشاعرِها وحلِّ المشاكلِ، ووضعِ أهدافٍ واقعيةٍ، والاستجابةِ للحالاتِ بطريقةٍ إيجابيةٍ، كما يساعدُ دعمُ الزوجِ والأسرةِ والمحيطينَ بشكلٍ كبيرٍ في العلاجِ، وقد يوصي الطبيبُ أيضاً ببعضِ مضاداتِ الاكتئابِ، ولكنْ إذا كانت تقومُ بـ الرضاعةِ الطبيعيةِ؛ فإنه يجبُ مناقشةُ الأنواعِ المناسبةِ، واختيارُ أقلِّ الأدويةِ ضرراً للطفلِ”.
وتنصحُ “أبو عبيد”: تَخطّي أعراضِ الاكتئابِ بسلامٍ في فترةِ الأسبوعينِ الأوَّلَينِ؛ قبلَ أنْ يتطوّرَ الوضعُ؛ بتلَقّي المساعدةِ والدعمِ في الشهورِ الأولى من عمرِ الطفلِ من أحدِ أفرادِ العائلةِ، ضعي خُطةً للاستمتاعِ بالأوقاتِ التي تقضينَها مستيقظةً بمُفردِك مع طفلِك ليلاً؛ ذكّري نفسَك أنّ هذه فترةٌ مؤقتةٌ وستَمرُّ، واستغلي الوقتَ في ممارسةِ هوايةٍ، أو الاستماعِ لشيءٍ تُحبيهِ .
سارِعي للنومِ كلّما نامَ طفلُكِ، لا تكترثي للوقتِ ليلاً أَم نهاراً، لا تكترثي للمنزلِ مُرتباً أم لا، لا تكترثي للطعامِ جاهزاً أم لا. النومُ من أهمِّ متطلباتِ الإنسانِ الجسديةِ؛ ليحيا حياةً طبيعيةً، وأيُّ خلَلٍ به يؤثّرُ بشكلٍ مباشرٍ على عقلِ الإنسانِ وأعصابِه وسلوكياتِه.
اقرأي عن اضطراباتِ ما بعدَ الولادةِ كثيراً؛ فكلّما زادتْ معرفتُكِ بما تمُرِّينَ به، أو احتمالِ أنْ تمُري به؛ اطمأنتْ نفسُك وهدأتْ الأفكارُ السلبيةُ داخلَكِ، وازددتِ قدرةً على تخَطي تلكَ المرحلةِ بقَدْرٍ من الأمانٍ.